هي واحدة من المرات القليلة التي يسمح فيها قاضي المحاكمة المعروفة بقضية «التخابر الكبرى»، للرئيس المصري الأسبق، محمد مرسي، بالحديث عبر زنزانته المعزولة. تحدث مرسي. انتهت الجلسة. ثم مات! كأنها خطبة وداع لا نعرف مضمونها بعد، فالمحاكمة سرية ولا يمكن أن نطّلع على مضامينها. إعلان مقتضب على التلفزيون الرسمي أكد خبر الوفاة، تلاه مباشرة خبر عن قرار لوزارة الداخلية برفع درجة الاستعداد القصوى تحسباً لردود فعل. في أيار/ مايو الماضي، نشرت أسرة مرسي بياناً نددت فيه بظروف اعتقاله، ووصفتها بـ«المخالفة لجميع الدساتير والقوانين المُنظِّمة للعدالة في مصر والعالم». حذرت العائلة من تدهور حالته الصحية، خاصة في ظلّ حالة التعتيم والحصار المفروضة على ظروف احتجازه. الوفاة أغلقت ـــ أو قد تكون فتحت ــــ ملفاً طويلاً لسجن مرسي منذ الانقلاب عليه في 3 تموز/ يوليو 2013. الرجل اعتُقل في مقارّ سرية يُحظر احتجاز الناس فيها. بقي سنوات في السجن الانفرادي ممنوعة عنه زيارة الأسرة غالبية الأحيان. وفي الجلسات القضائية، يكون محتجزاً وراء زجاج عازل للصوت. سنوات تخلّلها التحذير مرات عديدة من سوء ظروف الاحتجاز وتدهور حالته.
من المبكر الحديث عن التبعات الكاملة للوفاة المفاجئة. لكن ما حدث سيغيّر حتماً مسار الأمور، وسيتلقّفه أطراف عديدون. السبب أن ذلك يأتي قبل أيام من بدء السنة المالية الجديدة ورفع أسعار الوقود مرة أخرى. كما يدهم توقيت بدء «بطولة الأمم الأفريقية» التي تسعى الدولة لأن تكون كرنفالاً رياضياً لا سياسة فيه، ولا سيما مع عودة المشجعين إلى حضور المباريات بعد سنوات من المنع على خلفيات سياسية وأمنية. أيضاً، تقترب ذكرى الانقلاب السادسة.
داخلياً، قد يعزز موت مرسي نفوذ التيار «الإخواني» المنتسب إلى القيادي المقتول محمد كمال، الموصوف بتبنّي العنف. فدوماً، هاجم أفراده القيادات التاريخية، ورأوا أن سياستها الهادئة كبّدتهم الكثير من الخسائر. أسقطتهم من الحكم، وأدخلت عشرات الآلاف منهم إلى السجون، كما وَأَدت الحراك الشعبي في الشارع، وها هي تكتمل بوفاة الرئيس المنتخب الوحيد في البلاد.
من جهة أخرى، يبدو أن تيار القيادات التاريخية، بقيادة محمود عزت (القائم بأعمال المرشد) سيواجه أزمة داخلية في إقناع قواعد الجماعة وجمهورها بسلامة سياسته الرافضة للمواجهة الأمنية والداعية إلى الاكتفاء بالتنديد الحقوقي والإعلامي. في المقابل، يرتبط «جناح كمال» ـــ على الأقلّ ــــ بتنظيمين من تنظيمات العنف هما «لواء الثورة» و«حسم»، اللذين سجّلا تراجعاً في وتيرة العمليات منذ شهور، بعد ثلاث سنوات من النشاط الذي استهدف الشرطة والقوات المسلحة والقضاء، فضلاً عن محاولة اغتيال مفتي الجمهورية السابق علي جمعة.
وكان جناح العنف في «الإخوان» قد تبنّى، عبر ذراعه الإعلامية، «إعلام المقاومة»، الترويج والتضامن مع عمليات تنظيم «المرابطون»، المقرّب فكرياً من «القاعدة»، وكان ينفذ عملياته من الأراضي الليبية بقيادة ضابط الجيش السابق هشام عشماوي، الذي تسلّمته مصر قبل أقلّ من أسبوعين من ليبيا، عقب ثمانية أشهر على توقيفه. أما في سيناء، وعلى رغم أن الصراع هناك يتصدّره تنظيم «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش»، فإن التنظيم تبنّى في السابق عدداً من العمليات، وأعادها إلى الثأر لما يتعرض له المعتقلون الإسلاميون في السجون.
يلقي كل هذا الحديث الضوء على آخر توارد في الوسط السياسي منذ الفضّ العنيف لاعتصام مؤيدي مرسي في آب/ أغسطس 2013، ما أدى وفق بيانات الحكومة إلى قتل أكثر من 600 من أنصار الجماعة، فيما يتهم النظام السياسي الحالي بتهيئة ظروف مؤاتية لرفع وتيرة العنف داخل المجتمع. وعلى مدار السنوات الماضية، اتهم «الإخوان المسلمون» ومنظمات حقوقية محلية ودولية، النظام المصري بالإهمال الطبي داخل السجون، ولا سيما الخاص بقيادات الجماعة (راجع: تطبيق لوائح السجون: حلال لأعوان مبارك... حرام على «الإخوان»! العدد 3719 في 2019/3/23).
في أيار/ مايو الماضي، توفّي عضو مجلس شورى الجماعة، محمد العصار، داخل محبسه في سجن «برج العرب» إثر تعرضه لوعكة صحية. كذلك، توفّي المرشد العام السابق، محمد مهدي عاكف، في أيلول/ سبتمبر 2017 بعد نقله من السجن إلى مستشفى «القصر العيني»، بعدما رفض النظام العفو الصحي عنه على رغم إصابته بالسرطان. كذلك، في آب/ أغسطس 2017، توفّي عضو مكتب الإرشاد، عبد العظيم الشرقاوي، بعد منع إدخال الأدوية إليه وسجنه انفرادياً. كما انضم إلى قائمة «قتلى الإهمال الطبي» من الجماعة كلّ من فريد إسماعيل (عضو المكتب التنفيذي لحزب «الحرية والعدالة»)، ومحمد الفلاحجي (عضو البرلمان السابق)، وكذلك طارق الغندور وأبو بكر القاضي وصفوت خليل.