الرغبة في التغيير السريع تصطدم بإشكالية اختيار القوى المستقلة القادرة على القيادة
«هذا الواقع يجعل الحديث عن أزمة تفاوض وأزمة ثقة بين هذه الأطراف والمؤسسة العسكرية غير متماشٍ مع حقيقة الأشياء»، يتابع بكيس، موضحاً أن «الأطراف الفاعلين اليوم في الأزمة الجزائرية هم المؤسسة العسكرية، والحراك في الشارع بكل مكوناته، والدولة العميقة التي كان الجيش يتحكم فيها في الجزائر على مرّ عقود من الزمن، ونجد فيها تجمعاً للأحزاب والشخصيات السياسية والعامة»، مبيناً أن «جزءاً من النقابات والجمعيات كان مُسيَّراً من قِبَل رجل الاستخبارات القوي سابقاً، الجنرال توفيق، والجزء الآخر كان يدين بالولاء لمنظومة حكم بوتفليقة، أو فْلنقل الأطراف المتورطين معها، والذين يعتبرون سقوط هذه المنظومة قضاءً على مستقبلهم. ولا شك في أن تحرك الجهاز القضائي في إطار مكافحة الفساد شلّ القدرة المالية للدولة العميقة، ثم انتقل إلى مرحلة تحييد نفوذها السياسي». انطلاقاً ممّا تقدم، يرى بكيس أنه «طالما لم يعترف الحراك بالأطر الموجودة، واستمر في رفضه تفويضها الحديث باسمه، فإن الحوار يصبح عسيراً عليها، وهي لا تملك القدرة على طرح تصوراتها مهما كانت عملية ومناسبة»، مستنتجاً «أننا لسنا في مرحلة حوار جدي، بل هناك تسيير للزمن السياسي من قِبَل المؤسسة العسكرية التي تعمل على تحييد وإضعاف أجنحة السلطة والقوى القادرة على تهديد القيادة العسكرية، طالما أن الحراك لا يضغط كحركة ثورية بل كحركة أشبه بالحركات الإصلاحية، لأنه يخرج يوم الجمعة ليعبّر عن مطالب، ثم يعود إلى البيت وينتظر أسبوعاً كاملاً ليعيد الكرّة، وعادة بأقل زخم». ويزيد: «هذا النوع من الحراك لا يشكل تحدياً وجودياً لمؤسسة الجيش، ويمكن مسايرته بتنظيم خريطة طريق تحاول التماهي مع أكبر قدر ممكن مع مطالب الشارع، وفي الوقت نفسه تتيح إعادة ترتيب بيت النظام وفقاً لما استجدّ من تطورات. فالشعب الجزائري لم يعد يقبل بتسييره وفقاً للنمط السابق، والنظام اليوم ممثلاً بالمؤسسة العسكرية يبحث عن الخلطة السحرية المناسبة التي تراعي هذا التحول، ولم يستقرّ بعد على خريطة طريق واضحة، بل يحتاج إلى مزيد من الزمن السياسي»، مضيفاً أن المؤسسة العسكرية «تحاول محاورة الحراك من خلال الإجراءات التي تتخذها تدريجياً، وتحاول توزيعها وفقاً لتطور الأحداث، وفي كل مرة تتدخل حسب مقتضيات السياق لتحافظ على حدّ أدنى من التوازن يسمح لها بتفادي مرحلة الانفلات الأمني. من هنا، لسنا في مرحلة حوار جدي، بل نحن في مرحلة تحجيم تأثير مختلف الأطراف، بما في ذلك ما اصطُلح على تسميته المجتمع المدني في الجزائر، الذي لم يكن في الغالب إلا جهازاً تحت تصرف أجنحة السلطة يُستعمل في مشاريعها السياسية».
عوامل عديدة تزيد من حيرة المراقبين تجاه مبادرة المجتمع المدني. فالرغبة في التغيير السريع تصطدم بإشكالية اختيار القوى المستقلة، والتي تحظى بالإجماع بين فئات الشعب، القادرة على قيادته. وبحسب محند بيري، أستاذ الفلسفة ومساعد أحمد محصاص، أحد قادة الثورة الجزائرية، فإن ما يسمى المجتمع المدني هو واجهة التيار الهويّاتي البربري، ممثلاً بـ«جبهة القوى الاشتراكية» و«التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية». هؤلاء يطالبون بجمهورية جديدة تقصي جميع الأطراف الذين يُحسبون على «النظام السابق». يشير محند بيري إلى أن «الأطراف المستهدفين معروفون، وهم الأحزاب الوطنية، أي جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، وقسم من الإسلاميين»، معتبراً أن هذا التيار يحاول استغلال الفراغ الحالي الناتج من الأزمة ليحتلّ موقعاً مركزياً على المستوى السياسي، لأن «الشعب غالباً ما يكون عاجزاً مقارنة بالأقليات المنظمة، والتي تمتلك أدوات تعبئة ودعاية سياسية مرعية من الخارج». يصعب حتى الآن استشراف آفاق التغيير الذي قد تفضي إليه الظروف الحالية. يذكر محند بيري أن أنصار المرحلة الانتقالية يأخذون على قيادة الجيش تدخلها في الشأن السياسي، خاصة بعد اعتقال الرموز السياسيين والماليين للنظام السابق والتغييرات المهمة في الجسم القضائي، فيما تردّ «أوساط قريبة من قيادة الجيش على هذه الانتقادات عبر التأكيد أن القضاء يعمل اليوم من دون التعرض لأي ضغوط، لأن اللوبيات التي كانت تتحكم فيه في السابق تمّ ضربها». وحول مسألة المرحلة الانتقالية، يعتقد محند بيري أن «مقاربة قيادة الجيش تهدف أولاً إلى استعادة هيبة الدولة التي يستحيل من دونها قيام ديمقراطية فعلية وقابلة للحياة. يعني هذا الأمر أيضاً، وكجزء من توفير الظروف الملائمة لانتخابات ديمقراطية حقيقية، شلّ قدرة قوى التبعية للمركز الرأسمالي الغرب، التي خصخصت عدداً من مؤسسات الدولة، على التأثير».