أنبأت الخطوات الأخيرة التي اتخذها زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، في إطار «تطهير تيّاره من الفاسدين»، باحتدام صراع المصالح داخل التيار. إذ إن في خلفيّاتها تنافساً اقتصادياً و«مناخ وشاية» و«جوقة تفتين» تدفع الرجل إلى تبنّي مواقف تتناقض مع خطاباته، حتى بدت «الوصفة» التي اختُرعت أخيراً لمحاسبة «الفاسدين الصدريين» كأنها نسخة لبقة من نموذج محمد بن سلمان في «مكافحة الفساد».على طريقته الخاصة، أطلق زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، الذي يدأب على تصدير نفسه بوصفه «داعية إصلاح»، جولة جديدة لإصلاح تيّاره، «التيار الصدري». شعاراته ضد الفساد والفاسدين أحالها خطوات على الأرض وفق قواعده، بعيداً من «المجلس الأعلى لمكافحة الفساد» (الجهة الرسمية الموكلة إليها متابعة حالات مماثلة) الذي يرأسه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي. طريقةٌ أثارت، إلى جانب التوقيت، تساؤلات كثيرة عن خلفيات خطوات الصدر الأخيرة.
في تتبّع تلك الخطوات، يبرز بوضوح اسم «الحاج صالح العراقي»، الذي تفيد معلومات «الأخبار» بأنه يقف وراء تحريض الشارع على التحرك ضد «الصدريين الفاسدين» عبر حسابات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه الحسابات، التي تُديرها مجموعة مقرّبة من الصدر، على رأسها المدعو عقيل آل ماضي، والتي تقول بعض المصادر في «التيار» إن الصدر يطّلع على محتوياتها قبل نشرها، فيما يذهب آخرون إلى أنه يكتب جزءاً منها بنفسه، تحوّلت إلى أداة لتصفية الحسابات داخل «التيار» على ما يبدو. نموذج من ذلك ما تعرّض له «إمام جمعة الدواية»، حسين علي بجاي الغالبي، من تشهير، بتهمة «خرق الضوابط المعمول بها، والتشكيك في ثقة الصدر، وهو الحاج صالح محمد العراقي، وكذا تجاوزه على المكتب خلال حديثه في خطبة جمعة الدواية في محافظة الناصرية».
نموذجٌ ليس إلا جزءاً من تجليات الحملة الأخيرة، التي تخلّلتها دعوات إلى التظاهر أمام «مولات القيادات الفاسدة» في النجف وبغداد، مع ما رافق ذلك من أعمال عنف أدت إلى وقوع إصابات في صفوف المتظاهرين. المفارقة أن الدعوة «الصدرية» إلى الاعتصام حتى «شلع قلع» الفاسدين، تحوّلت في نهاية المطاف إلى دعوة لمراعاة «شهر الصيام»، علماً أن الدعوتين كلتيهما كانتا خلال شهر رمضان. اللافت أيضاً، أنه بعد سقوط تلك الإصابات، تنبّه الصدر إلى دور الحكومة وأجهزتها الأمنية في ضبط الشارع المتفلت، فدعاهما إلى محاسبة «المخرّبين»، غافلاً عن أن رجالاته هم من أطلقوا هذه الشرارة بعيداً من المؤسسات الرسمية، التي دأب هو على الدعوة إلى التزامها.
من بين مَن استهدفتهم حملة «صالح العراقي»، الذي دائماً ما يقرن تصريحاته بعبارة «قال لي قائدي»، «المعاون الجهادي» السابق للصدر، كاظم العيساوي (أبو دعاء)، المحسوب لدى بعض «الصدريين» على إيران. هذا الأخير تعرّض قبل أسبوعين، بعدما لمّح «العراقي» إلى «غضب» زعيم التيار على بعض مَن كانوا من أقرب مقرّبيه، لهجمات كلامية، أعقبتها اعتصامات وتظاهرات أمام بعض المرافق التجارية التابعة له، وهو ما نجم عنه سقوط جرحى نتيجة اشتباكات بين المتظاهرين وحُماة تلك المرافق. هكذا، أدخل «العراقي» (الذي بات يوصف بأنه لسان الصدر ويده التي تعفيه من أي مسؤولية مباشرة عن مواقف قد تسبّب إحراجاً) الشارع النجفي في حالة غليان، حَمَلتْه ــــ في أعقاب تصاعد الأزمة ــــ على تقديم «وصفة» للحلّ، تقوم على «استتابة الفاسدين»، ومراقبة الصدر لهم لمدة عام، ومن ثم التبرع بعائدات مصالحهم التجارية لمصلحة عوائل الشهداء والمحتاجين، في لفلفة غريبة للموضوع تذكّر بأساليب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في «محاربة الفساد»، حيث عمد إلى اعتقال كل أصحاب الثروات في فندق «ريتز كارلتون» في الرياض، واستولى على ثرواتهم وأصولهم، بعيداً من أي معايير شفافية وعدالة.
في خلفيات الموقف الأخير، توضح مصادر مطلعة، في حديث إلى «الأخبار»، أن الصدر لا يمانع أي تجارة، شرط أن تعود بمنفعة على «لجان التيار الاقتصادية»، أي أن يشارك التجار أرباحهم، لكن المصادر تبين أن صراعاً اقتصادياً يشهده التيار بين قياداته المنغمسة في تجارات مختلفة، مضيفة أن هذا الصراع يترافق مع مناخ من «الوشاية» بلغ حدّ حديث بعض تلك القيادات أمام الصدر عن نية منافسيها «الانشقاق برعاية مباشرة من طهران». هذه «النميمة»، المصحوبة بـ«وصفات» «صالح العراقي»، دفعت الصدر إلى إحالة الأمر على الشارع، مع ما في ذلك من لعبة خطرة. ضغطٌ حمل بعض القيادات على الاعتذار، فيما حفّز أخرى على رفع سقف خطابها، لكنها جميعها نزلت في نهاية المطاف عند «رغبة الصدر». وفي انتظار «عام المراقبة»، تستمرّ المناوشات، مُهدِّدة بـ«اندلاق» التصعيد على الأرض مجدداً، وآخر تجلّياتها احتكاكٌ «غير مباشر» بين الصدر وزعيم «عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي، بعدما تداولت بعض الصفحات كلاماً مفبركاً منسوباً إلى الأخير، ليردّ الأول بالتهجم على «رفيق سلاحه» سابقاً، غير أن «ضبط النفس» من قِبَل بعض المعنيين في صفوف الطرفين حال دون تصاعد الاشتباك الكلامي.