بعد انتهاء المفاوضات بين المجلس العسكري وتحالف قوى «إعلان الحرية والتغيير» أول من أمس، إلى عدم الاتفاق على نسب التمثيل في «المجلس السيادي» ورئاسته، وتمسك الطرفين بقرار الجهاز الذي يمثل رأس الدولة، عاد المشهد السوداني إلى مرحلة ما قبل المفاوضات التي انطلقت بعد أسبوع على إطاحة الرئيس عمر البشير وإعلان تشكيل المجلس العسكري، ليبقى الشارع السبيل الوحيد لإجبار «العسكر» على تسليم السلطة إلى حكم مدني انتقالي، يشرف على عملية تحول ديموقراطي مدتها ثلاث سنوات، وفق أهم مخرجات الحوار.عودة المشهد إلى تلك المرحلة تتجلى في الشعارات التي تطالب بحلّ «العسكري»، وتسليم السلطة إلى المدنيين، وتجديد قوى «الحرية والتغيير» الدعوات إلى مسيرات مليونية وتسيير المواكب صوب مقرّ الاعتصام المفتوح أمام قيادة الجيش في الخرطوم، وإيقاف مرور القطارات عبر ساحة الاعتصام، والتمهيد لتنفيذ إضراب وعصيان مدني. كما تتجلى في تجاهل «العسكري» مطالب الشارع، واستمراره في إصدار القرارات غير المُخوّل بها جهاز يفترض أنه انتقالي، من سبيل قرار إلغاء تجميد النقابات والاتحادات المهنية، وتعيين أعضاء جدد في المجلس، وتهديد المضربين عن العمل بخسارة وظائفهم.
ويسعى «العسكري»، من خلال إعادة عمل النقابات والاتحادات المهنية والاتحاد العام لأصحاب العمل، والتي كان المجلس قد جمّدها في نيسان/ أبريل الماضي، في ظلّ اتهامات تواجهها بسيطرة موالين لنظام عمر البشير عليها، إلى التمهيد لسحب بساط الشرعية من التجمعات المهنية غير الرسمية (غير المعترف بها) التي تشكل «تجمع المهنيين السودانيين» الذي يقود الاحتجاجات في البلاد منذ شهور، من سبيل «البيطريون» و«الإعلاميون» و«الصيادلة» و«المعلمون» و«المحامون»، علماً منه بأن هذا التجمع الذي شُكّل في عام 2016 من دون أن يحظى باعتراف الحكومة في عهد البشير، في ظلّ قانون يحظر تشكيل نقابات مهنية مستقلة ويسمح فقط بنقابات تضمّ جميع العاملين في المؤسسات من دون فصل، يستلهم قوته من «العمل الجماعي»، وقد أثبت قدرته على تنظيم الاحتجاجات في ظلّ التزام المتظاهرين بالساعة التي يحددها التجمع للتظاهر. وفي هذا الإطار، اعتبر «تجمع المهنيين» القرار «ردَّة تخدم أجندة الثورة المضادة، وتعمل على تبديد مكاسب الثورة»، في حين يؤكد القانونيون أن تشكيل هذه التجمعات المهنية يتماشى مع الدستور في المادة 40، التي تنصّ على أنه «يكفل الحق في التجمع السلمي، ولكل فرد الحق في حرية التنظيم مع آخرين، بما في ذلك الحق في تكوين الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات والاتحادات المهنية أو الانضمام إليها حماية لمصالحه».
يسعى «العسكري» من خلال إعادة عمل النقابات إلى سحب الشرعية من «المهنيين»


ولم يكتف «المجلس العسكري» بمواجهة قادة الاحتجاجات، بل ذهب بعيداً في ابتزاز المحتجين في لقمة العيش، مهدداً المضربين عن العمل بالفصل من وظائفهم. هذا ما قاله صراحةً نائب رئيس المجلس، محمد حمدان دقلو، المُلقّب بـ«حميدتي»، في خطاب أمام مجموعة من أفراد قوات «الدعم السريع» التي يرأسها، قائلاً: «كل من يُضرب عن العمل لن يعود إليه مرة أخرى»، بحسب ما ظهر في مقطع مصور انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، مساء أول من أمس. ورداً على ذلك، نشر محتجون صوراً لهم وهم يحملون لافتات عليها عبارة «حميدتي، تعال افصلني»، متهمين قوات «الدعم السريع»، التي سبق أن روّعت أهالي دارفور، بإطلاق النار على المتظاهرين الأسبوع الماضي، عندما قُتل عدة محتجين وأصيب عشرات آخرون.
إذاً، هي معركة كسر عظم بين المحتجين الذين يطالبون الجيش بتسليم السلطة «فوراً» إلى قادة الحراك من جهة، و«العسكر» الذين باتوا يوصفون بـ«قوى الثورة المضادة» من جهة ثانية. وفي هذا الإطار، اعتبرت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية أن «الثورة المضادة بدأت تنشط وسط جمود المفاوضات»، مشيرة إلى أن قادة الجيش بدأوا يتراجعون عن تعهدهم بتسليم السلطة إلى المدنيين. لكن بحسب كبير الباحثين في «المجلس الأطلنطي»، كاميرون هدسون، تُعدّ استراتيجية «تبديد الوقت في التفاصيل الصغيرة وترك الآخرين يصارعون» سلاحاً ذا حدين. ويعتبر هدسون، وفق ما تنقل عنه المجلة نفسها، أن هناك مؤشرات على وجود انقسام داخل قيادة الجيش والقوات النظامية، من بينها منع حراس مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني السابق، الفريق صلاح قوش، فريق النائب العام من دخول منزله لاحتجازه والتحقيق معه في قضية فساد. وتبدو الإقالات والتعيينات الأخيرة في المجلس العسكري في الإطار نفسه، وآخرها أمس مع تعيين الفريق أول ركن جمال الدين عمر إبراهيم، عضواً جديداً ورئيساً للجنة الأمن والدفاع، خلفاً للفريق الركن مصطفى محمد مصطفى، الذي تقدم باستقالته «لظروف صحية» حسب بيان المجلس، علماً بأنه أدار ملف التفاوض مع «الحركة الشعبية» وعدد من الحركات المسلحة، وهو يُصنف من ذوي التوجهات الإسلامية داخل القوات المسلحة، وذلك بعد ثلاثة أسابيع على استقالة ثلاثة أعضاء آخرين، بينهم رئيس اللجنة السياسية.