يبدو مسار التاريخ في الشرق الأوسط، وكأنه يسخر من التنظيرات والتوقعات والمستَبقَات؛ أقله أننا لا نستطيع أن نؤكد ما إذا كانت الأحداث هي تعبير عن تيارات تاريخية عميقة أم أنها تقع على سطح مياه ضحلة؟ سؤال يلخّص أسئلة تطرحها «تطوراتٌ» لا تني تفاجئنا، ومنها: ــــ هل جازف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في ترشيح المشير عبدالفتاح السيسي لرئاسة مصر، أي لتحالف روسي ــــ مصري؟ أم أن الصراع بين موسكو وواشنطن، هو من طبيعة جديدة تقبل المنافسة غير الجذرية رغم ما يعتورها من انفعالات؟ هل امتلكت الدولة المصرية فعلاً هامش الحركة اللازم لاتباع سياسة خارجية متوازنة بين القوى العظمى؟ ربما، كتعبير ممكن عن الموجة الثورية التي تجتاح مصر منذ ربيع 2011.

غير أن السؤال يبقى حول صدقية تحليل مستقرّ ورزين للبنية الاجتماعية ــــ السياسية للسلطة المصرية، ينطلق من كونها راسخة التبعية للإمبريالية الأميركية.
ــــ صفقة السلاح المتوقعة بين موسكو والقاهرة ــــ وهي شاملة، وبأسعار تفضيلية، قد تصل قيمتها إلى ثلاثة مليارات ــــ مدهشة؛ فهي تتضمن منظومة صواريخ اسكندر التي لم يسبق بيعها لأي جيش أجنبي، كما تتضمن عودة الخبراء العسكريين الروس إلى مصر؛ أسيكون هناك صراع متفاقم أم أننا سنرى ولادة مشهد فريد من تساكن الخبراء الأميركيين والروس في المحروسة؟
ــــ تطمح روسيا إلى زيادة المبادلات التجارية المدنية مع مصر إلى خمسة مليارات دولار سنوياً، وتطمح مصر باستقبال ملايين السواح الروس من الطبقة الوسطى الجديدة التي أصبحت سياحة البحر والشمس السنوية تقليداً أساسياً في نمط حياتها. وهذا مسار اعتيادي، أي من دون دلالات سياسية، لو كان، مثلاً، روسياً ــــ إماراتياً، كما هو حادث فعلاً، ولكنها مصر! أم أنه لم يعد هناك فارق استراتيجي بين مصر والإمارات؟
ــــ أخيراً، السعودية والإمارات اللتان تموّلان الحرب الإرهابية على حليف روسيا الرئيسي في المنطقة، سوريا، هما اللتان ستمولان التسليح الروسي لمصر؟ بالنسبة للخليجيين الذين يخوضون الصراع كله من منظور طائفي، فإن مصر هي، في النهاية، قوة سنيّة، ومنظومة صواريخ اسكندر هي مجرد بضاعة تُشترى بالمال، وتفيد، أقله، في إحداث التوازن مع القوة الإيرانية «الشيعية»؛ ولكن ماذا عن المنظور الروسي في عهد القيصرية الجديدة؟ إيران حليف استراتيجي لموسكو التي رفضت كل الضغوط والإغراءات للتخلي ــــ ولو جزئياً ــــ عن النظام السوري، وهو رابطة العقد لمحور المقاومة والممانعة «الشيعي»؛ هل تعرف الاستخبارات الروسية ما لا نعرفه من التطورات الداخلية في توجهات النظام المصري الجديد، وهل ستبيع المصريين أسلحة استراتيجية من دون ضمانات تكفل عدم ارتداد مفاعيل التسلّح المصري على مصالح القيصرية؟
ــــ المسار المتصاعد للتحالف المتعدد الأغراض بين روسيا وايران ــــ وهو العامل الرئيسي في تقويض الحصار الغربي للجمهورية الإسلامية ــــ يتشكّل، بالطبع، من مساحة موضوعية للقاء لا غنى عنه بين قوتين صاعدتين على حساب الغرب. أكثر من ذلك؛ هناك، في مكان ما من ذلك التحالف الجيوسياسي، ملمح لتحالف أرثوذكسي ــــ شيعي في مواجهة مخاطر الإرهاب التكفيري النابع من البيئة النفطية ــــ السنية ، والذي يهدد الحلف الإيراني ــــ العربي، كما يهدد روسيا، سواء بسواء؛ فهل تشكل العلاقات الروسية ــــ المصرية المستجدة، اختراقاً للاصطفافات ينبئ بتحالف أرثوذكسي ــــ شيعي ــــ سنّي معتدل في مواجهة الوهابية والقاعدة والإخوان المسلمين؟
ــــ وإذا كان المثلث الروسي، بضلعيه الإيراني والمصري، ينشأ فعلاً، أفلا نكون أمام تكوّن سياق دولي ــــ إقليمي ـ عربي مضاد للقوة الإسرائيلية؟ فماذا، إذاً، عن العلاقات الروسية ــــ الإسرائيلية؛ هل تتفكك أم تُستَخدَم، مستقبلاً، لتفاهمات واقعية، بل حتى لمصالحات؟
ــــ ما نلاحظه وسط كل ذلك أن القضية الفلسطينية لم تعد قضية دولية أو إقليمية، بل تحولت قضية محلية محصورة في المثلث الإسرائيلي ــــ الفلسطيني ــــ الأردني، حيث المدى الممكن لمفاعيلها؛ هل يستمر ذلك المسار ويستقرّ أم ينفجر في انتفاضة فلسطينية جديدة ــــ بقيادات جديدة ــــ أضحت هي المخرج الوحيد للأفول الفلسطيني؟ وهل ينجح الأردنيون وفلسطينيو الأردن في ردّ احتمالات الصراع الأهلي عن طريق التصعيد السياسي ضد العدو المشترك، إسرائيل. وهو ما نلاحظه في تنامي الخطاب المعادي للكيان الصهيوني لدى الأوساط الشعبية والسياسية والنيابية في الأردن، وصل، في مداولات البرلمان حول الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى، إلى المطالبة بإلغاء معاهدة وادي عربة وحتى العودة إلى الخيار العسكري؟
ــــ كل ذلك يبدو حقيقياً وغير حقيقي في آن، ولكن يظل هناك، في النهاية، ما هو صلب وملموس وتاريخي حقاً؛ أعني الكفاح الذي يخوضه الجيش العربي السوري ضد الحلف الأميركي ــــ السعودي ــــ الإرهابي... هنا يحدث التاريخ فعلاً.