القدس المحتلة | تحلّ الذكرى الحادية والسبعون للنكبة مع تضخّم هالة «صفقة القرن» الأميركية التي تستكمل واحداً من أكبر مشروعات «استكمال النكبة»، هو مشروع «القدس الكبرى» الذي خطّطت له إسرائيل وشرعت في تنفيذه منذ زمن، بل أنجزت 70% منه بالفعل. ومثّل «القدس الكبرى» بمتعلّقاته وإجراءاته مرحلة نوعيّة جديدة من الاحتلال للقدس، ترتكز على تغيّرات بنيوية وحضرية وديموغرافية واقتصادية (تمّت غالبيتها) بعد أن عمل الاحتلال منذ 1967 على تغييرات تدريجية على «أطراف» المدينة القديمة ومركزها. تعود جذور المشروع إلى مخطِّط المدن البريطاني هنري كيندال، الذي قدّم عام 1964 مخطَّطاً لتوسيع حدود بلديّة القدس تحت حكم الحكومة الأردنيّة لتصل إلى مطار قلنديا وكفر عقب شمالاً حتى الولجة وبيت صفافا جنوباً، لكن حالت «نكسة 1967» دون تنفيذ المخطّط، إلى أن عاد وصار المرجع الذي يسترشد به العدو لتوسيع حدود القدس.
(الأناضول)

يمكن القول إن المشروع، الذي من المقرر أن يكتمل رسميّاً بحلول 2020، يمثّل «محصّلة طبيعية» للعمل الصهيوني المركّز والهادئ نسبياً، منذ احتلال كامل القدس، على إقامة امتداد (حضري وسكّاني) وبنية تحتية حول المدينة، وفيها تتناسب والابتلاع الكامل للمدينة، وهو ما يجعله مشروعاً يساعد في تجاوز التعقيدات السياسية المعهودة حول القدس كإحدى قضايا الوضع النهائي، أي بفرض أمر واقع تحت حجج «البناء الحضاري» والتطوير الاقتصادي والسياحي، فضلاً عن أنّ مسألة السيطرة الميدانية محسومة منذ اللحظة الأولى بحكم القوّة العسكرية، ثم جاءت مسألة «الشرعية الدولية» الجاري العمل عليها منذ إعلان الإدارة الأميركية الاعتراف بالمدينة «عاصمة لإسرائيل».
هكذا، كما مثّلت نكبة 1948 ترجمة للحضور السكّاني اليهودي إلى إشغال مؤطّر سياسيّاً واجتماعيّاً للأرض بقوة السلاح، يمثّل «القدس الكبرى» نكبة أخرى تهدف إلى تزويد الكيان الإسرائيلي بـ«عاصمة دولة» يتوافر لها عنصر الأمان بحكم عزلتها الجغرافية عن محيطها بجانب الشرعية الدولية، وليس بالحق المجرّد أو حقوق السكان الأصليين، بل يراهن العدو على طابع «كوزموبوليتاني» للقدس الجديدة الكبرى ينحّي السياسة جانباً، ويقدّم الانخراط في «بيئة اقتصادية اجتماعية مشتركة» كهوية يمكنها جمع سكّان مدينة واحدة على اختلافهم، بناءً على الدور الطبيعي لرأس المال في تشكيل النمط البشري المعاصر.
كما مثّلت نكبة 1948 ترجمة للحضور السكّاني اليهودي، يمثّل «القدس الكبرى» نكبة أخرى


من هنا، لم يكن التهجير القسري والإزاحة السكّانية للفلسطينيين، في الجهات الأربع حول مركز القدس «خبراً يومياً» أو «إجراءات شريرة» تعكس طمعاً مجرّداً، بل كان خطوات هندسية ومرحلية معدّة سلفاً كفلت تكوين كُتل من المنشآت وإعداد مساحات استيطانية قضمت الامتداد الحضري للمدينة، وضربت طوقاً استيطانياً حول مركزها، وربطته بالأراضي المحتلّة عام 1948، وأخلت قطاعات داخل القدس وفي مركزها لإقامة مستوطنات جديدة على حساب السكّان الفلسطينيين. وعلى سبيل المثال، تُمكن قراءة هدم تجمّع الخان الأحمر السكّاني من زاوية «القدس الكبرى»، وارتباطه بإنشاء مشروع E1 الاستيطاني الذي سيضمّ وحدات وفنادق ومنطقة صناعية، وسيربط الكتلة الضخمة «معاليه أدوميم»، الواقعة شرقيّ القدس المحتل عام 1967، بالشطر الغربي من المدينة المحتلّ عام 1948، أي إنه يشغل القطاع الواقع بين الشطر الشرقي للمدينة والأطراف الغربية لمحافظة أريحا الواقعة شماليّ شرقيّ القدس.
بالعودة إلى «القدس الكبرى»، يهدف المشروع إلى توسيع «بلدية القدس» سكّانيّاً وإداريّاً، لتمتد من مركز المدينة حتى مستوطنة «فيرد يريحو» شرقاً و«عتصيون» جنوباً و«بيت شيمش» غرباً، وكذلك من المركز حتى عيون الحرامية شمالاً، ما يرفع عدد المستوطنين في القدس إلى 150 ألفاً، بالتوازي مع تقليص نسبة الفلسطينيين من 40% إلى 20%، الأمر الذي يعني تحويلهم إلى أقلية تقيم في جزر معزولة. فالمخطط يشمل ضمّ أكثر من 100 ألف مستوطن إلى المدينة، بالتزامن مع إخراج أكثر من 120 ألف فلسطيني، أي ثلث عدد المقيمين فيها من الفلسطينيين.
وتكاملاً مع السيطرة الديموغرافية، يشمل المشروع إقامة شبكات طرق تسهّل حركة وحدات الجيش والأمن على أطراف «المدينة الكبرى» مع تشييد معسكرات ونقط مراقبة وأنفاق وجسور ومحطّات نقل ووقود، ويرتكز على الشوارع الطويلة الملتفّة حول التجمّعات السكّانية العربية لتعزلها وتربط المستوطنات بعضها ببعض ثم مع مركز القدس، فيصبح «المركز» نقطة التقاء شمال «المدينة الكبرى» مع جنوبها والشرق مع الغرب، بالإضافة إلى ارتكازه على الطريق العرضي الكبير الذي يربط المنطقة الصناعيّة، الواقعة قرب مطار اللد، مع المنطقة الصناعيّة في مستوطنة «عطروت». أيضاً من المخطط إقامة مناطق صناعيّة على طول الخط الذي يربط المستوطنات الغربيّة مع الشماليّة ليمتدّ نحو الشرقيّة، ومركزه الأكبر «معاليه أدوميم».
ولا يقتصر «القدس الكبرى» على ربط بؤر استيطانية كبيرة بمركز المدينة مباشرة، وبؤر استيطانية صغيرة بالبؤر الكبيرة (أي أشباه المركز)، بل يؤدي تنفيذه بما يشمله من شبكات طرق متقاطعة إلى فصل جنوب الضفة المحتلة عن وسطها، وعزل القدس المحتلة نهائياً عن باقي الضفة، مع توسيع مساحتها الإجمالية أفقياً لتشكّل جسماً جغرافياً يمتدّ من محيط البحر الميّت شرقاً إلى محيط البحر المتوسّط غرباً، فتصبح مساحة القدس وفقاً لأحد أدبيّات المشروع «أكبر من مساحة العواصم الدولية الكبرى». ويمكن هنا تحديداً فهم أن «الأرض» هي البنية الرئيسية للمشروع، فهي العامل السابق لتجميع السكّان الصهاينة عليها في تكتّلات اجتماعية تمثل «الخام» الذي اشتغل عليه الذهن الصهيوني المخطِّط لخلق حيّز مديني يبدأ بإزاحة أصحاب المكان وساكنيه، ويكفل مجاله الحيوي نفيهم نحو الأبعد، وهي إزاحة أكثر «نوعيّة» وتركيباً من التي شملتها النكبة بمعناها العام القائم على التهجير.