منذ الرابع والعشرين من أيار(مايو) 1960، تاريخ قرار الجمهورية المصرية الأولى تأميم الصحافة، في خطوة واجهت انتقادات كثيرة آنذاك، مرّت تسع وخمسون سنة. عقودٌ تعاقب خلالها على السلطة رؤساء عسكريون وواحد مدني عقب ثورة كان من المفترض أن تغيّر وجه البلد، لكن نهج التعامل الرسمي مع الإعلام، على جميع مستوياته: المملوك للدولة والخاص والأجنبي، لم يتغير، لتتمّ منذ نحو عام مرحلة استيلاء جديدة تُفرض على الكل. فلا صوت يعلو فوق صوت الأجهزة الأمنية ومصالحها، ولا مجال للمخالفين، والقمع هو أسلوب التعامل الوحيد مع المعارضين، والوسيلة اللوائح والقوانين التي فرضها رجال نظام المخلوع حسني مبارك، ليعود الإعلام المصري إلى ما كان عليه قبل 2004، ويتأثر عمل الوسائل العربية والأجنبية بالنتيجة بمحدّدات الدولة، إلى حدّ صار معه شبيهاً بأداء الإعلام المحلي.ارتدادٌ إلى ما قبل 15 عاماً على الأقل. هذا ما يمكن أن يوصَف به وضع الإعلام المصري اليوم. في خلال سنتين، تراجع المجال الإعلامي إلى سيرته الأولى عام 2004، عندما كان مغلقاً ولا يُسمح فيه سوى بالمؤسسات التابعة للحكومة فحسب، إذ لم يكن هنالك إعلام خاص على الإطلاق. هذا الارتداد، الذي تتحمّل مسؤوليته الدولة وأجهزتها، أفقد مصر مصداقيتها ومكانتها الإعلامية التي اكتسبتها عبر سنوات، في وقت صارت فيه أخبار البلد الحقيقية تُعرف من الخارج.
قبل أن تبدأ خطة سيطرة الدولة على الإعلام الخاص، قرّرت الدوائر العسكرية إطلاق شبكة قنوات تتحدث باسمها، وتكون المعبّر الرئيس عن حال الدولة بدلاً من التلفزيون الرسمي الذي تصعب إعادته إلى الحياة بسرعة. فكان قرار إطلاق شبكة «دي إم سي» التي لم تحقق نجاحاً يُذكر، على رغم تنفيذها برامج بتكلفة عالية واستقطابها غالبية الكفاءات في المحطات الأخرى، لتفقد بريقها بعد أسابيع قليلة من انطلاقها. إخفاق «دي إم سي» لم يكن دافعاً إلى النظر في الأسباب ومعالجتها، أو النظر في أسباب تميز الآخرين والعمل على تطوير الشبكة التي لم ينطلق منها سوى قناتين فقط، فيما تعثر باقي المحطات لأسباب مالية، على رغم إنفاق أكثر من ملياري جنيه عليها، بل كان سبباً في إطلاق خطة لإحكام السيطرة على جميع المحطات أو إقفالها أو إفقادها عناصر تميّزها تحت ضغوط مباشرة وغير مباشرة.
لذلك، منذ عامين، بدأت الأجهزة الأمنية خطة السيطرة التي أعدّها مدير مكتب الرئيس آنذاك، اللواء عباس كامل (وزير المخابرات العامة حالياً). تعثرت الخطة قليلاً بسبب الصدام بين جهازَي المخابرات «العامة» و«الحربية»، والذي انتهى إلى سيطرة الأخيرة ورجالها مع إقالة مدير الأولى اللواء خالد فوزي فجأة، وتعيين كامل محله، ليكمل الأخير خطة الاستحواذ على جميع المحطات التلفزيونية والإذاعية تقريباً. أطاح كامل، فوزي، بتهمة الفساد المالي، ومنه ما يتعلق بالإنفاق على المحطات، وهو ما تبعته إقالة عدد كبير من وكلاء الجهاز المسؤولين عن التعامل مع الإعلام، فجميعهم خرجوا من المشهد ما بين إقصاء كلي واحتجاز قيد الإقامة الجبرية حتى ردّ مبالغ مالية، في حين أن ضباطاً آخرين عادوا إلى عملهم بعد إعادتهم مبالغ كبيرة حصلوا عليها بطريقة غير مشروعة عبر التربّح في «عمولات إعلامية»، كما تقول مصادر.
اللافت أن عملية التربّح لم تُطِح ضباطاً في «العامة» فقط، بل في «الحربية» وشبكتها «دي إم سي» التي تبين أن فيها عمليات استغلال بعد مراجعة حسابية مفاجئة، وتأكيد صرف مبالغ على سبيل الرشوة من أجل المبالغة في التعاقدات، وهو ما حدث مع برامج عديدة قبل أن تقرر الشبكة تخفيض مصروفاتها والاستغناء عن كثير من العاملين وتخفيض أجور آخرين. وعلى رغم ضعف المردود الإعلاني، الذي جاء غالبيته بالأمر المباشر (من دون مناقصات) من شركات وَجِهات تابعة لرجال أعمال يسعون إلى نيل رضى الدولة، إلا أن «دي إم سي» تواصل الإنفاق الكبير على أمور ثانوية من دون تحقيق مردود، فضلاً عن إعدادها منذ عامين لإطلاق قناة إخبارية بقي مذيعوها ومعدّوها ومخرجوها يتقاضون رواتبهم من دون أن تخرج هذه المحطة إلى النور حتى الآن. وقد انتهى تفرد «دي إم سي» أخيراً بقرار دمجها ضمن «مجموعة إعلام المصريين» التي صارت تمتلك إعلاماً موازياً للإعلام الرسمي للدولة.
حتى الدراما لم يعد يُسمح لغير المؤيدين بالعمل فيها


بالعودة إلى عملية الاستحواذ على باقي القنوات، أجبرت الأجهزة الأمنية رجل الأعمال محمد الأمين على التنازل عن 51% من أسهمه في شركة «المستقبل»، المالكة لشبكة قنوات «سي بي سي»، فجرى إقصاؤه وإقصاء بناته من المشهد الإعلامي كلياً، وصارت الأمور بيد ضباط سابقين في جميع إدارات القناة، بما فيها إدارة شؤون العاملين. وجاء «الإطار القانوني» للاستحواذ عبر «إعلام المصريين» التي تمتلكها أجهزة المخابرات وتدير شؤونَها المالية وزيرةُ الاستثمار السابقة، داليا خورشيد (هي في الوقت نفسه زوجة محافظ «البنك المركزي» طارق عامر الثانية)، في وقت يبرز فيه على الساحة اسم تامر مرسي الذي ظهر قبل سنوات قليلة بصفته منتجاً فنياً قبل أن يتحول إلى رئيس مجلس إدارة «إعلام المصريين»، ليتحكم في جميع محطاتها وكذلك في سوق الدراما التلفزيونية بالكامل بعدما احتكر الإنتاج والتوزيع.
الاحتكار وصل إلى المحتوى التلفزيوني أيضاً، فلم يعد الأمر مقتصراً على السياسة فقط، بل امتدّ إلى الدراما التي لم يعد يُسمح للمعارضين أو حتى رافضي التأييد بالعمل فيها. في الوقت نفسه، فرض الأمن شروطاً قاسية على الوكالات الإعلانية المختلفة، ما جعل غالبيتها تابعة له أو من دون عمل يُذكر، بعدما مُنع رجال الأعمال من التعاقد معها. ومن جهة ثانية، صارت «إعلام المصريين» تملك أكثر من 80% من المحطات الفضائية والإذاعات التي تخرج من مدينة الإنتاج، فباتت تتحكم في مصير العاملين وتقصي وتعيد من تشاء، علماً بأن معاييرها في الاختيار قائمة على المحسوبية ومدى القرب من الأجهزة الأمنية.



«أفضل مذيعة» ابنة عباس كامل!
منذ وصول عبد الفتاح السيسي إلى كرسي الرئاسة، يسعى مدير مكتبه السابق ووزير المخابرات العامة الحالي اللواء عباس كامل إلى تنصيب نفسه حكماً في كثير من المجالات، ومن بينها الإعلام. فاللواء الذي عمل مع السيسي منذ خدمته في الجيش ويوصف بأنه كاتم أسراره، أدرك مبكراً أهمية الإعلام وأن يكون له نفوذ داخله، فما كان منه إلا أن وضع زوجته وابنته في هذا المجال المهم.
حتى قبل تعيينه رسمياً وزيراً للمخابرات العامة، كانت زوجة كامل مديرة مسؤولة في شركة «دي ميديا» المالكة لشبكة قنوات «دي إم سي» وإذاعة «9090»، لكن بعد تعيينه تقرر إبعادها من المنصب لأسباب أمنية، على اعتبار أن عملها لا تتناسب طبيعته مع زوجة مدير المخابرات، خاصة أنها كانت ملتزمة الحضور اليومي في مقرّ الشركة.
أما ابنته، فقرر الدفع بها كمذيعة راديو في البداية ثم مذيعة في التلفزيون. ورغم افتقادها المؤهلات، فإنها صارت تحصد لقب «أفضل مذيعة راديو» وهي لا تجيد حتى الحديث عبر ميكروفون الإذاعة، بل أُنتج لها برنامج تلفزيوني أخيراً لتطلّ من خلاله على الشاشة.
وابنة اللواء وزوجته ليستا وحدهما في هذا النطاق، بل يوجد مذيعون آخرون هم أقارب لمسؤولين في الجيش تم الدفع بهم وتخصيص برامج لهم في مواعيد مميزة يومياً.
وهو أسلوب وإن كان يتبع على نحو فجّ حالياً، فإنه يشبه ما كان يجري إبان نظام حسني مبارك، عبر تصدير أبناء اللواءات والمسؤولين والدفع بهم في مواقع كثيرة، من بينها الإعلام.