قبل عامين بالضبط، أعلن «ضامنو أستانا» الثلاثة توافقهم على إنشاء عدة «مناطق خفض تصعيد» في سوريا، تتوزع على كامل الجغرافيا السورية باستثناء شرق البلاد، حيث كان يسيطر «داعش» و«قوات سوريا الديموقراطية». اليوم، غابت تلك المناطق المتفرّقة، واجتمعت الفصائل التي انسحبت منها في جيب ترعاه أنقرة، يمتدّ من ريف اللاذقية الشرقي إلى ضفّة نهر الفرات، مروراً بأرياف حماة وإدلب وحلب. ظروفٌ كثيرة تغيّرت خلال هذين العامين، ودُعّم «خفض التصعيد» بتهدئة وفق شروط «اتفاق سوتشي»، لكن ذلك لم يَحُل دون عودة التوتر إلى خطوط التماس في «آخر الجيوب»، بزخمٍ لم يحضر منذ مدّة طويلة. ورغم حدّة القصف المتبادل بين الجيش السوري والفصائل المسلحة خلال الأسبوعين الماضيين، كانت المعطيات تؤكّد أن ما يجري لن ينزلق إلى «معركة واسعة». غير أن اليومين الماضيين شهدا تصعيداً لافتاً، أدخل عناصر إضافية إلى معادلات التهدئة المفترضة. إذ استُهدفت نقطة مراقبة للجيش التركي قرب شير مغار على أطراف سهل الغاب، ما تسبب بإصابة عسكريَين تم إجلاؤهما إلى تركيا. وبالتوازي، شهد محيط تل رفعت الشمالي الغربي، أول من أمس، جولة اشتباك عنيفة بين الفصائل المسلحة التي تديرها أنقرة من جهة، وتشكيلات الجيش السوري والقوات الرديفة التي تنتشر هناك مع مقاتلين منضوين في «قوات تحرير عفرين» من جهة ثانية. المعركة التي تركزت في بلدتي المالكية ومرعناز، وتخلّلها تقدم للفصائل المدعومة تركياً، انقضت بانسحاب الأخيرة ومقتل 3 عسكريين أتراك، وفق رواية وزارة الدفاع التركية.
التصعيد المتزامن في محيط إدلب وتل رفعت أثار جملة من التساؤلات حول طبيعة التجاذبات الداخلية التي غذّته، سواء بين «ضامني أستانا» الثلاثة، أو بين أنقرة وموسكو. فالأخيرتان عادتا (في العلن) إلى قنوات التنسيق حول مجريات الأحداث في تل رفعت أمس، بعدما كانتا قد خاضتا نقاشات طويلة عن مصير البلدة ومحيطها، وسيّرتا دوريات منسّقة على طرفي خطوط التماس هناك. وبالتوازي، كان لافتاً أن أنقرة التزمت الصمت حول مجريات أرياف حماة وإدلب واللاذقية، رغم إصابة عسكريّيها أخيراً هناك، وتدفّق سيل من اللاجئين نحو المخيمات الحدودية.
عاد الزخم العسكري إلى جبهات ريف اللاذقية ومحيط جسر الشغور

رواية ما حدث في تل رفعت، وفق ما نقلتها أوساط إعلامية مقربة من الحكومة السورية عن «مصدر أمني واسع الاطلاع»، تقول إن التصعيد كان مفتعلاً من الجانب التركي بغرض الضغط «لتأجيل عملية عسكرية باتجاه إدلب كانت ستبدأ يوم الاثنين»، وإن الجانب الروسي توسّط «بناءً على طلب تركي لوقف إطلاق النار عبر رئيس اللجنة الأمنية في مدينة حلب، فتمت الموافقة في بادرة إنسانية من الجانب السوري للسماح للطرف التركي بسحب جرحاه». ولم تتبنَّ القنوات الرسمية السورية هذه التفاصيل، لكنها أشارت إلى وجود تحضيرات من قِبَل الفصائل المسلحة لشنّ عملية عسكرية في ريفَي حماة واللاذقية، وهو ما يبدو تمهيداً لتصعيد مرتقب هناك.
وبرزت تباعاً عدة تفاصيل غير اعتيادية حول تطورات أول من أمس، إذ استهدفت قوات الجيش السوري بدعم جو روسي، مواقع وخطوط دفاع للمسلحين في ريف اللاذقية ومحيط جسر الشغور، وهي منطقة لم تشهد تلك الكثافة النارية منذ مدة طويلة. البارز في استهداف جسر الشغور هو أن الأخيرة كانت في الكفة الأولى لمحادثات روسية ــــ تركية طويلة، حضرت تل رفعت في كفتها الثانية. وأشيع الكثير عن بحث الطرفين السماح بشنّ عملية عسكرية تتيح عودة جسر الشغور إلى سيطرة الجيش السوري، مقابل السماح للفصائل المدعومة تركياً بدخول تل رفعت. كذلك، يبدو فشل الهجوم التركي بهذه الطريقة ومقتل عسكريين أتراك، استثنائياً جداً، نظراً الى أن شن أي عملية عسكرية هناك يتطلب ضوءاً أخضر روسياً، قالت بعض الأوساط المقرّبة من «قوات تحرير عفرين» وبعض الفصائل الرديفة للجيش إنه كان متوفراً أمس. وذهبت بعض الأنباء إلى الحديث عن «رفض إيراني» لتوافق روسي ــــ تركي حول مصير تل رفعت لما في ذلك من تهديد لمواقع متقدمة في ريف حلب الشمالي الغربي في نبّل والزهراء، ولما له من تداعيات على توازنات القوى في عموم شمال سوريا.
ويعيد الحديث عن «توافق» روسي ــــ تركي إلى تصريحات وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، حيث قال إن «هناك وعوداً من الجانب الروسي بخصوص تل رفعت، متعلقة بإخلائها من إرهابيي وحدات حماية الشعب الكردية». وهو ما تحدث عنه أمس نائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي، بعد المعركة في مرعناز، موضحاً أن بلاده وروسيا تناقشان التطورات هناك، وأن «الاتفاق كان بالنسبة إلينا أن نتوقف عند هذا الحد (تل رفعت)، لكن إذا استمرت هذه الهجمات، فقد يتخذ هذا شكلاً مختلفاً». وهو تصريح يوحي بوجود اتفاق منجز لم ينجح تنفيذه أول من أمس، لكنه قد يعود إلى الواجهة سريعاً، ما قد يفتح الباب أمام تصعيد عسكري أوسع.