كما دأب منذ الاستقلال، استغلّ الجيش السوداني دعوات المحتجّين والمعارضة له بحسم الموقف ضد نظام عمر البشير، بانقلاب أطاحه وبانتفاضة الشعب معاً، فارضاً حكماً عسكرياً بدلاً من مجلس مدني لإدارة المرحلة الانتقالية، ما يفتح الباب أمام سيناريوات أقلّها خسارة طول أمد الأزمة السياسية، وأكثرها سيادة السلاح المنتشر في الأقاليم على امتداد خريطةٍ قبليّةٍ هشة.اصطدمت الاحتجاجات المستمرة في السودان منذ 115 يوماً بانقلاب عسكري أطاح الرئيس عمر البشير، من دون أن يَسقط النظام الذي عاش تحت حكم عسكري أكثر مما عاش في ظل حكومات مدنية ديموقراطية منذ الاستقلال عام 1956. انقلابٌ لم يُلبّ تطلعات الشعب الذي يطالب بـ«انتقال ديموقراطي»، وشاءت الظروف أن تبدأ بوادره في اعتصام مفتوح أمام مقر قيادة الجيش في الخرطوم، بدءاً من السادس من الشهر الجاري، في ذكرى الانقلاب على الرئيس الراحل جعفر النميري عام 1985. وكما استجاب آنذاك وزير الدفاع المشير عبد الرحمن سوار الذهب، لانتفاضة جماهيرية واسعة طالبت بإسقاطه، مثَّلت المطالبات للجيش بالتدخل وحسم الأمر هذه المرة أيضاً فرصة ذهبية للمؤسسة العسكرية للانقضاض على البشير، ليس استجابة لمطالب الشعب، بل ليعيد الكرة بالقفز على السلطة، تماماً كما كانت تخشى قوى المعارضة والشعب.
إذاً، هو انقلاب على البشير والشعب معاً قاده وزير الدفاع عوض بن عوف، وهو نائب الرئيس المعيَّن حديثاً في خطاب إعلان حالة الطوارئ وحل الحكومة في شباط/ فبراير الماضي، راكباً موجة الشارع، ليسيّرها في اتجاه حكم عسكري دشنه أمس بإعلان تعطيل العمل بالدستور، و«الطوارئ» لثلاثة أشهر، وحل مؤسسة الرئاسة من نواب ومساعدين، وحل مجلس الوزراء وحكومات الولايات ومجالسها التشريعية، وتعويضها جميعاً بتشكيل «مجلس عسكري انتقالي» يتولى إدارة حكم البلاد لفترة انتقالية مدتها عامان، تقودها لجنة أمنية عليا وقيادة الجيش، ويتم خلالها وضع «دستور جديد دائم للبلاد»، كما ادعى بيانه.
هذه القرارات سرعان ما حوّلت فرحة المتظاهرين والمعتصمين في ساعات الصباح الأولى، حين انتظروا بيان تنحّي الرئيس المتأخر، باحتفالات وهتافات تعلن «انتصار الثورة»، إلى خيبة أمل بعد طول انتظار، ليفاجأوا بانقلاب عسكري من شأنه «سرقة» الاحتجاجات، كما قال بيان «قوى الحرية والتغيير»، الذي رفض خطوة «انقلابيي النظام»، داعياً الشعب إلى مواصلة التظاهرات والبقاء في الشوارع في كل مدن البلاد، ولا سيما الاعتصام القائم أمام مقر القيادة العامة للجيش، حتى «تسليم السلطة لحكومة مدنية انتقالية تعبر عن قوى الثورة».
يتوقع مراقبون حدوث انشقاقات في أوساط الأجهزة الأمنية والجيش


وبينما أبدى الجيش دفاعاً عن المحتجين أمام مقارّه قبل الانقلاب، في مواجهة قوات الأمن والشرطة التي استشرست في محاولة فض الاعتصام، وجّه «تجمع المهنيين السودانيين»، الذي يقود الحراك الشعبي في البلاد، نداء أمس إلى «جميع ضباط وضباط صف وجنود الجيش السوداني الشرفاء، الذين انحازوا إلى الشعب ودافعوا عن المعتصمين، إلى الوقوف مع الشعب ضد محاولة سرقة الثورة من سدنة النظام لإعادة إنتاج ذات حواضن الفساد والقهر والظلم»، فهم لا يرون فرقاً بين البشير وبن عوف. وقد لخصت الموقف الناشطة السودانية آلاء صلاح، التي تحولت إلى رمز في التظاهرات بعد تداول صورها على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي خلال مشاركتها في التظاهرات، بالقول: «الشعب لا يريد مجلساً عسكرياً انتقالياً... نريد مجلساً مدنياً يقود المرحلة الانتقالية».
في هذا السياق، يقول نائب رئيس حزب «الأمة»، صديق إسماعيل، لـ«الأخبار»، إن بيان القوات المسلحة «محبط وسيؤزّم الوضع أكثر، ويعقّد المرحلة السياسية الحالية»، بينما يبدو أن المشهد قد تبدّل من المطالبة بتنحي البشير إلى المطالبة بإسقاط بن عوف، كما بدا في ترديد المتظاهرين «تسقط تاني»، عقب البيان الذي وصفه القيادي في «الحزب الشيوعي السوداني»، صديق يوسف، بـ«المخيب لآمال المتظاهرين والقوى السياسية المعارضة التي قدمت الشهداء والجرحى». وأكد يوسف، في حديث إلى «الأخبار»، «الاستمرار في الاحتجاجات والاعتصام أمام مقر قيادة الجيش «حتى تتم الاستجابة لمطالب الشعب بإحداث تغيير جذري لنظام الرئيس السابق، وانتقال الحكم إلى سلطة مدنية».
إزاء المشهد الجديد، توقع أستاذ العلوم السياسية، حسن الساعوري، حدوث سيناريوين في المرحلة المقبلة، جراء استمرار التظاهرات المنددة بالانقلاب. الأول هو أن تظل الأجهزة الأمنية موحدة وتستخدم القوة لتفريق المتظاهرين، وحينئذٍ «يُمكن أن تتدخل ميليشيات حزب الأمة والحركات المسلحة الدارفورية، وقوات قطاع الشمال، للدفاع عنهم، ونصبح أمام سيناريو الفوضى في سوريا»، وهنا لا يستبعد الساعوري، في حديث إلى «الأخبار»، أن «يحدث تدخل خارجي من دول الجوار مثل مصر وجنوب السودان». أما السيناريو الثاني، فهو أن تحدث انشقاقات في أوساط الأجهزة الأمنية والجيش، لكنه يرجح أن تكون «خطوة الجيش قد تمت بالتنسيق مع جهاز الأمن والمخابرات الوطني والشرطة وقوات الدعم السريع» لتفادي ذلك.
وبدت مظاهر التنسيق أمس في كيفية تعامل الجيش مع قرار البقاء في الشارع، ولا سيما أن وزير الدفاع أكد في إعلانه «حظر التجوال لشهر، من العاشرة مساء إلى الرابعة صباحاً». لكن بعدما هاجم متظاهرون مركزاً لجهاز الأمن والمخابرات في مدينة كسلا، شرق البلاد، ومقراً آخر في مدينة بورتسودان، حذر الجيش مساء من «المخاطر التي قد تترتّب على عدم الالتزام بحظر التجوال». مع ذلك، تمسك منظمو الاعتصام بالبقاء أمام مقر الجيش، فيما دعت «قوى إعلان الحرية والتغيير»، المحتجين، إلى «عدم التفلت أو الاعتداء على أي ممتلكات حكومية أو شخصية»، مرددة شعار: «سلمية، سلمية».
سوى في الشكل، لا يشبه انقلاب أمس الانقلابين اللذين توّجا انتفاضتَي 1964 و1985، وأديا إلى إطاحة نظامي إبراهيم عبود وجعفر النميري، وولّدا أنظمة لاحقة. آنذاك، كانت القوة المهيمنة والمسيطرة هي القوات المسلحة، من دون وجود قوات مسلحة وتشكيلات عسكرية موازية كما الحال اليوم، فضلاً عن حالة من الانفصام باتت ظاهرة بين قيادة الجيش وقواته المقاتلة المكونة من الرتب الأقل، ما قد يقود إلى تآكل الجيش والشرطة والأمن في ظل خلافات وغياب التنسيق والرؤية الواحدة لدى الأطراف في التعامل مع الأزمة المرشحة أن تطول.