حمص | يُعرف المقهى من ظلّه، لونه برتقالي كضوء الشمعة التي تنير واجهته. الشوارع المؤديّة إليه تشي بأن ثمة حرباً ضارية وقعت قربه، ولكنها توقفت هناك، على باب «حي الأرمن» في حمص. يتسرب الصوت خفيفاً من مقهى «ياسمين عتيق»، اللافتة مطفأة وكذلك مصابيح المحل. السهرة «عالشمعة»، كبيوت حمص بعد أزمة الكهرباء: الظلام يلفّ حيّ الأرمن. كيف للغناء أن يخرج من شارع في حمص؟! يجيب المقهى. تتسرّب منه أصوات شباب فرقة «ترويكا». حفلة مجّانية بأصوات شباب جامعيين، ولأجلها يحضر (من تبقى من) الزبائن.
تبدأ نور سليمان (22 عاماً) بالغناء. يسود السكون في المقهى وينصت الجميع: «اهو ده اللي صار». يمرّ سيد درويش، صاحب اللحن، في أزقة حمص الحزينة. نور تعيش، وحدها، في بيت استأجره والدها بعد نزوح العائلة من حي برزة الدمشقي. باتت وحيدة لأن والدتها ماتت إثر إصابتها بالسرطان، قبل أن يصاب والدها بجلطة ويرحل هو الآخر. يقول رفاقها إن صوتها بات أكثر حناناً في الغناء منذ رحيل والديها.
زميلها في الفرقة مختار رجب (24 عاماً) لم تمنعه الحرب في «عزها» من الغناء والموسيقى. كان يخوض رحلة محفوفة بالمخاطر: يخرج بسيارته من حمص، يمر في بلدتي الفيروزة وزيدل، ليدخل إلى حي الأرمن. طريق يستغرق ساعة، هو بديل أكثر أمناً من «شارع الحضارة» الذي يوصل من قلب حمص إلى حي الأرمن، ولم يكن يستغرق عبوره أكثر من عشر دقائق. حين التقيناه، أخبرنا أن رحلته الأخيرة كانت مليئة بالقنص، ولم يجد «دومري» في طريقه، وهذه هي الحال غالباً.
يمضي مختار معظم وقته في الاستديو الصغير الذي يملكه، أو «بيت الفرقة» كما يسمّونه. يتدربون فيه دورياً. وفيه، يتربع على الحائط إطار كبير يضم صورة لـ«دوار الفاخورة»، يتوسطه عمود نهشته آلاف طلقات القنص، ولا يزال واقفاً. يعتبرونه «جزءاً من صمودنا، وبه نتحدى أوجاع الحرب لنعزف ونغني». إذاً، كل فرقة تحتاج إلى شعار. لم تبقِ الحرب سوى العمود، فحوّلوه إلى شعار.
وكما هي حال الشعار، لكل آلة موسيقية قصة. يقول مختار إن العود هو حياته. لديه «حياتان» (عودان) واشترى «حياةً» ثالثة قبل عامين، رغم أن ذلك يعتبر جنوناً في حمص، فكل من يملك مالاً ادخره لمواجهة الأيام السوداء، لا للموسيقى التي تصير ترفاً.
نوار ديوب (23 عاماً) لم يملك ما يكفي ليشتري غيتاراً جديداً. ولو امتلكه لاشترى غيتاراً ولا شيء سوى ذلك. يشارك نور في الغناء، وفي آخر سهرة، غنّيا معاً النشيد الشهير: «موطني». باسل كوسا (23 عاماً) كان أكثر براغماتية من نوار. لم يحتمل المشاركة مع الفرقة بغيتار مهترئ. شارك في «جمعية مالية» حيث يسكن، حصد نصيبه وحدّث غيتاره. لا يأسف على المال المصروف بدلاً من آلته الموسيقية. يقول في استراحة الحفلة اليومية «المصاري بتروح وبتيجي، بس هون فرحتنا الوحيدة بهالحرب، لو معي مصاري أكتر كنت اشتريت غيتار أحلى. بس هلقد منقدر». قلة تسهر الآن في حمص مع الفرقة. قلة تسهر أصلاً. ستجد شخصاً يرتب النرجيلة وآخر يمزج «الفودكا» بعصير الليمون. في «ياسمين عتيق» الخدمة ذاتية self service. الجميع يأتي هرباً من الحرب، بمن فيهم صاحب المقهى، مراد الصالح، الذي يصرف الوقت منشغلاً مع الفرقة، ويشارك عازفيها الغناء، وخصوصاً أغاني وديع الصافي.
يحين موعد الجاز. يستوي علي القش (27 عاماً) على إحدى كراسي الخشب العتيقة في المقهى. يرفع السكسوفون، ويبدأ بالعزف. خلال النهار لا يعزف الموسيقى. حفلة المقهى طقس مقدس في يومياته. حين تشتعل جبهات الأحياء في حمص، يحمل الكاميرا ويبدأ بتصوير المعارك. يصعب جمع الساكسوفون وكاميرا الحرب، ينحاز إلى الأولى، لكن الثانية ليست خياراً، يقول بأسى. يخيّم هدوء على المقهى، يخرقه صدى صوت قذيفة بعيدة. على مقربة من علي، يجلس نيبال الأحمد الذي تعلم العزف على الناي بمجهود شخصي. يعزف بسلاسة، لكنه «ينشّز» أحياناً، لأنه لم يدرس الموسيقى كرفاقه، بل درس «الأدب الفارسي». تشارف السهرة على نهايتها. يبدأ الحاضرون بالمغادرة إلى الشوارع المقفرة ليلاً بعدما أشرف الشمع على الذوبان. يقولون إنهم يسهرون في «ياسمين عتيق»، ليعودوا إلى حمص التي عهدوها قبل الحرب.