تتوالى حوادث العنف والاعتداءات المتكررة على المدرّسين في المدارس السورية من قِبَل طلّابهم، في مشهد يعكس حالة مجتمع ما بعد الحرب، والتغيّرات الصادمة التي اجتاحت المؤسسات التعليمية والتربوية. حالة من انعدام الأمان يواجهها المدرّسون السوريون اليوم، بعد اعتداء عدد من الطلاب أخيراً على مدرّس في إحدى مدارس بانياس. انتهى الأمر بالمدرّس إلى العناية المشددة بسبب شدة الإصابة، فيما اعترف اثنان من الطلاب بالجريمة واقتيدا إلى السجن. ثمة الكثير من الحالات المشابهة التي أودت بطلاب عدّة إلى التعبير عن غضبهم من القيّمين على العملية التعليمية، من خلال لجوئهم إلى العنف اللفظي أو الجسدي. فَمِن حادثة ضرب لأحد الموجّهين من قِبَل طالب لديه، إلى اعتداء طالبة على أستاذها الذي لجأ إلى الاعتذار منها بدلاً من المطالبة بمحاسبتها، يمكن الوقوف على حالة من الانفلات الأمني في المدارس، بما لا يكفل حماية المدرّس من طباع بعض الطلاب «المدعومين» و«الانفعلايين». ولدى البحث عمّن يتحمّل مسؤولية ذلك، لا يمكن إلا التوجه إلى معظم الأسر التي تعاني خللاً في تربية أبنائها، وتعجز عن عزلهم عن مظاهر العنف والرصاص المحيطة بهم، فيما لا يمكن إغفال دور المدرّسين أنفسهم باعتبارهم القيّمين على العملية التعليمية والتربوية، بالاشتراك مع إدارة المدارس. هنا، يجب التوقف عند وصول حدّة العنف إلى الضرب المتبادل بين المدرّسين أيضاً، على غرار ما شهدته إحدى مدارس اللاذقية من شجار بالأيدي بين مديرة ومدرّسة، لتتكرر الحادثة بين مدرّستين في مدرسة أخرى. حوادث تزيد «الطين بلّة» بالنسبة إلى الطلاب المعنيين بتصنيف المعلّم «نِعم القدوة»، والذين لا يتحمّلون مسؤولية الأزمة الانفعالية والأخلاقية الناجمة عن تقليد «المثل الرديئة».

مدارس الياسمين: «اللحم إلكن»
معظم الشباب السوريين سمعوا من الآباء والأجداد عن مدارس الماضي في دمشق القديمة، حيث كانت عبارة عن بيوت عربية تتوسّطها فسحة سماوية، يلعب الطلاب فيها بين شجيرات الياسمين وشتول الفلّ الشامي والحبق والورد البلدي. هذه المدارس استُبدلت بها قبل عقود مبانٍ بائسة قاتمة تسدّ منافذَها قضبان حديدية، غير كافية لضبط الأجيال المتعاقبة والمتفلّتة من النظام التلقيني القاسي، الذي لطالما اعتمد على سلطة المدرّس أو الإدارة في مدارس الياسمين السابقة. ما عاد طالب اليوم يتقبّل الانتقاد أو القسوة داخل مدارس القضبان الحديدية، بل قد يبادر بالعنف تجاه من يلقّنه علوماً جافة من غير أساليب جذب أو تطبيقات حديثة، وفق مناهج لا روح فيها. يحزن معلّمو اليوم على سلطة زمان:
«قم للمعلّم وفِّهِ التبجيلا ... كاد المعلّم أن يكون رسولا»، فجيل اليوم لا يحب الشعر العمودي، ويصعب تقييده بمُثل الماضي وأدبه وشعاراته. ولم يبقَ للمعلّم إلا الحنين إلى أيام اجتماعات أولياء الأمور في المدارس، حيث كان الأخيرون يرفعون شعار «اللحم إلكن والعضم إلنا»، كتشريع قاسٍ لضرب التلاميذ في سبيل نيلهم العلم والمعرفة المزعومَين. أما طالب اليوم، فيمكنه الإساءة إلى مدرّسيه، بل بات الأفضل للمدرّس أن يجلس «بأدبه» بدلاً من الطالب.

وحدات شرطية في المدارس!
وكأن المجتمع ينقصه المزيد من العسكرة والعنف، لتأتي المطالبة باستعادة نظام التربية العسكرية، «الفتوة»، التي باتت تغلب على أصوات المدرّسين الذين يفتقدون الحماية والأمان، بعدما بات الطالب يشعر بأنه فوق القانون والآداب العامة. تعتبر المدرّسة، ميساء عز الدين، أن إلقاء اللوم على المدرّسين يظلم الكثير من أصحاب المهنة الإنسانية مِمَّن لا يزالون يمارسون عملهم وفق ضميرهم المهني. وتضيف قائلة: «أصبح المدرّس يدخل إلى صفه خائفاً على نفسه، وفي حالة حذر من توجيه أي تنبيه إلى الطلاب، خشية الرد غير المتوقع، والذي قد يصل إلى الضرب». وتتابع بتأثّر: «أعشق التدريس، لكن واقعنا سقيم. أمارس المهنة منذ 10 سنوات، وقد بدأت أتعب. وصلنا إلى مرحلة من الذل الذي نشعر به من كل جانب»، فيما وصل الأمر ببعض المدرّسين إلى المطالبة بضرورة إيجاد وحدة من الشرطة ضمن كل مدرسة إعدادية أو ثانوية، بما يكفل ضبط الأمن في المؤسسة التعليمية، وسط عجز المعنيين بإدارتها.
تفتقر البيئة المدرسية إلى الأنشطة الترفيهية والرياضية والموسيقية


وتأتي الدروس الإضافية الخصوصية لترفع آخر سلطة معنوية للمدرّسين داخل المدرسة، وتخفض اعتماد الطلاب عليهم في نيل احتياجاتهم المعرفية، ما يعني المزيد من الإهمال والفوضى واللاجدوى من الذهاب إلى المدرسة. وبالحديث عن الدروس الخصوصية، لا بدّ هنا من الإشارة إلى الرواتب المنخفضة للمدرّسين، بما لا يوفر متطلبات العيش، أسوة بسائر الموظفين الحكوميين في سوريا. وتشكو هناء، مدرّسة أربعينية، من اجتياز الطلاب امتحاناتهم النهائية بمعدلات مرتفعة رغم إهمالهم ومستواهم المتدني خلال العام، ما يفاجئ مدرّسيهم الذين يختبرون مستوياتهم. وتعزو الأمر إلى حالات الغش الامتحاني التي ازدهرت في السنوات الأخيرة، ليصل الأمر بالبعض إلى دخول كليات الطب والهندسة، من غير أحقية بنظر مدرّسيهم.

البيئة المدرسية السلبية!
وإذا كانت النظرية السلوكية في علم النفس منذ مطلع القرن الماضي تركز على العنف باعتباره سلوكاً يمكن اكتشافه وتعديله تبعاً لقوانين التعلّم، فقد أجرى السلوكيون دراساتهم على السلوك بوصفه مستمداً من البيئة، التي تعزّز السلوك العنيف أو تخفّفه. ذلك يفرض دقة وحذراً في التعامل مع الطالب خلال العملية التربوية، وبشكل متكامل ما بين المدرسة والمنزل. وبوصف البيئة المدرسية السورية تفتقر إلى الأنشطة الترفيهية والرياضية والموسيقية، فهي تصنَّف وفقاً لعلم النفس بيئة سلبية وسط تزايد العنف وانتشار الانحرافات السلوكية الناجمة عن تأثر الطلاب بما يتابعونه عبر وسائل الإعلام والإنترنت، إضافة إلى مظاهر الحرب التي طغت على جميع مفاصل الحياة. ومن هُنا، يمكن أن يُلحظ اختلاف درجة انحدار النظام التعليمي بين مدرسة وأخرى، بحسب ما يتوافر من عوامل تعود إلى إدارة كل مدرسة واهتمامها بتوفير الحدّ الأدنى من الشروط التربوية. كذلك، يجدر التركيز على دور وزارة التربية، بما يفرض عليها استعادة زمام المبادرة الفورية والنهوض بواقع المدارس السورية، من خلال إيجاد حلول عصرية وتحديث المدارس وطرائق التدريس والمناهج والقوانين.