القاهرة | تصلح الكلمات التي ذكرها عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» لوصف حال قطاع عريض من الشعب المصري بعد ثلاث سنوات بدأت مع ثورة «25 يناير»؛ فمناخ الحرية السياسية والاجتماعية الذي تمخضت عنه الثورة تحول بعد مرور ثلاث سنوات إلى بدايات استبداد سياسي واجتماعي تجلى في العديد من الظواهر التي تصاعدت وتبدّت صورها ونتائجها في المجتمع المصري بصورة أوضح بعد ثورة «30 يونيو».
وتجلت آثار التغييرات العنيفة التي ضربت البيوت المصرية في فتاوى طائشة بتطليق الزوجات الإخوانيات، وحرمة الزواج من أبناء وبنات أعضاء الحزب الوطني المنحل، وتلك الأم التي تخلت عن أمومتها وسلمت ابنها لأجهزة الأمن بدعوى انتمائه إلى حركة «6 أبريل»، فضلاً عن التغييرات العنيفة التي أصابت شباب الإسلاميين، بانتشار الألفاظ والشتائم السوقية، على صفحاتهم وخطابهم المعتاد.
ما يمكن أن نسميها «الفتاوى السياسية الاجتماعية» ظهرت بوادرها عقب ثورة «25 يناير» مباشرة، عندما أفتى الشيخ عمر السطوحي، الأمين العام للجنة العليا للدعوة الإسلامية في الأزهر، بتحريم الزواج من بنات أعضاء الحزب الوطني المنحل، لأنهم «غير أمناء، وأفسدوا الحياة في مصر، فمن السهل عليهم أن يضيّعوا أمانة الأسرة والزوجة».
وفي مهرجان انتخابي أثناء الدعاية لاستفتاء 19 آذار 2011، تحدث القيادي في جماعة الإخوان المسلمين صبحي صالح عن «الأخ الفلوطة» الذي يختار زوجته من خارج «الإخوان»، معتبراً إياه مستبدلاً الذي هو أدنى «الزوجة من خارج التنظيم» بالذي هو خير «الزوجة الإخوانية»، قبل أن يُختتم سباق الفتاوى الطائشة بفتويين متتاليتين للشيخ مظهر شاهين، خطيب عمر مكرم، بتطليق الزوجة الإخوانية، والدكتورة سعاد صالح، الملقبة بـ«مفتية النساء» التي استشارها شاب على الهواء مباشرة في خطيبته الإخوانية التي ترفض عائلته الارتباط بها، فأيّدت صالح موقف العائلة معتبرةً أن الله قادر على إكرامه بمن هي خير منها.
وفي حديث إلى «الأخبار»، تناول الباحث في علم الاجتماع السياسي أحمد عبد الحميد حسن هذه الظواهر بالتحليل. وقال «إن فترة ما بعد الثورة المعلوماتية والإنترنت وثورة الفضائيات أدخلت مساحة تواصل ومساحة تنسيق مع شباب من خارج التنظيم بشكل أكبر، ما أتاح التواصل مع شباب مختلف الأيديولوجيا والأفكار، والاطلاع على أفكار مجتمعية مختلفة، بعيداً عن الجماعة، لكونها المصدر الوحيد للمعرفة، وفق النسق المعلوماتي للتنظيم».
ورأى حسن أن «صراع الفتاوى والفتاوى المضادة هو نتيجة حتمية للاستقطاب الذي ضرب عمق المجتمع المصري قبل حزيران الماضي، وصراع من هو مع الدولة مع من هو ضدها بعد 3 تموز الماضي، وهو أمر تأثيره المجتمعي أكبر بكثير من تأثيره السياسي، حيث يسهم في تكريس انقسام المجتمع إلى معسكرات وجزر منعزلة على أساس الهوية السياسية والدينية».
وأوضح قائلاً: «إن حالة التشظي داخل المجتمع بدأت منذ أحداث الاتحادية؛ فتصرفات الإخوان وهم في الحكم أسهمت فيها بشكل كبير، ما أدى إلى وصول حالة الاحتقان إلى داخل منازل المصريين، على أساس الديني العلماني والليبرالي الإسلامي قبل أن يسهم الخطاب السياسي ما بعد 3 تموز بوصفه خطاباً فاشياً موالياً للنظام الحالي في تقسيم المجتمع إلى مع أو ضد المؤسسة العسكرية، وهو وضع أسهم فيه الإعلام الخاص بجزء كبير».
بدوره، قال رئيس قسم الطب النفسي في جامعة الأزهر محمد المهدي، في حديث إلى «الأخبار»، إن «الضخ الإعلامي الموجه ليل نهار في اتجاه معين، أسهم في تغيير الخريطة الذهنية عند المصريين، بعد ثورة الوعي التي حدثت في ثورة 25 يناير، الذي تمثل في شعارها (عيش حرية عدالة اجتماعية كرامة إنسانية) قبل أن تنتكس الشعارات بسبب ما جرى في المرحلة الانتقالية الأولى التي قادها المجلس العسكري السابق، وما جرى فيها من مساومات والتفافات ومقايضات بين قوى الثورة وغيرها، ما أسهم في اشتداد قوة الثورة المضادة وأسفر عن خلل شديد في توازن الناس، وهو ما تجلى أثره في حالة من عدم اليقين والقلق والتوتر والغضب».
ورأى المهدي أن «الأم التي أبلغت الأمن عن ابنها هي خير مثال للفئة التي تتعرض بشكل مكثف لما يشاع في الإعلام عن مؤامرات وخيانة للوطن من قبل مأجورين، وبالتالي قدمت مصلحة الوطن على مصلحة ابنها، لأن الوطن أبقى وأفضل من الابن الخاين العميل».
وعن التغير الأخلاقي الذي أصاب شباب التيار الإسلامي عموماً، وتغير مفردات خطابه، تحدث المهدي قائلاً «إن هذه الألفاظ تعبّر عن نوع من العنف اللفظي الشديد نتيجة شعورهم بأنهم مطاردون ومنبوذون ومتهمون بكل الاتهامات، إضافة إلى الإقصاء من اللعبة السياسية والحياة الاجتماعية، ما جعلهم يتورطون في الوقت الحالي في ممارسات من العنف اللفظي، كالسب والتخوين، كما أن الأحداث أثبتت أنه كان هناك خلل في التربية الإخوانية، أظهر في السنة ونصف الماضية، بعض السلبيات في سلوك الإخوان والقيادات، كالتعامل مع الآخر بشكل سيّئ جداً».
من جانبه، قال الباحث الشرعي أحمد سمنة لـ«الأخبار» «إن الفتوى الدينية تحولت إلى أداة قمع من أدوات السلطة لإرهاب المعارضين لها»، معتبراً أن «طرفي الصراع في مصر وظّفا الفتاوى الدينية في إطار سياسي، ما مثّل خطراً على اللحمة الاجتماعية، تجسد في النفور بين الأشقاء والأسر، ليس من منظور سياسي فقط، بل من منظور ديني، وهو ما يضاعف من تأثير ما يجري».