في العراق، كل شيء «مسيّس»: الكوارث، والأزمات، والموت. حصيلة غرق العبّارة في نهر دجلة بلغت ــــ حتى الآن ــــ أكثر من 95 شخصاً. مدينة الموصل، «عاصمة الشمال»، والتي سبق أن اتخذها تنظيم «داعش» عاصمة له، استوطنها الموت، ولم يبارحها منذ سقوطها المدوّي بيد أكثر التنظيمات تطرفاً في العالم في حزيران/ يونيو 2014. الحادثة عكست حجم الفساد المستشري في الدولة العراقية، لكن سرعان ما تمّ الزجّ بها في «البازار السياسي»، لتظهر القوى السياسية كأنها لا تأبه لأرواحٍ ــــ جُلّها لنساء وأطفال ــــ أزهقت في «إجازة الربيع»، بقدر ما تسعى إلى استثمار ما حصل.
اليوم، ينتهي الحداد العام على أرواح الضحايا، وسط استنكار رسمي وشعبي. أبرز المواقف كانت لـ«المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني)، الذي وصف الحادثة بـ«المؤلمة، والتي تشير إلى خلل كبير في النظام الإداري للدولة»، وذلك لـ«عدم قيام الأجهزة الرقابية بدورها... فهي جزء من الفساد المستشري». القوى السياسية ــــ بدورها ــــ حمّلت في مواقفها «الفساد» مسؤولية ما جرى، وكأنها ليست جزءاً منه. أما الرئاسات الثلاث، وبعد معاينتها الميدانية في الموصل، فقد عقدت اجتماعاً في العاصمة بغداد، لمناقشة الأوضاع في المدينة بصورة عامة، حيث تم الاتفاق على «انتهاج كل الوسائل والإجراءات القانونية لمعالجة سوء الإدارة المحلية في المحافظة، وملفها الأمني... فضلاً عن تحسين وضعها الاقتصادي». وأضاف المجتمعون في بيانهم إنهم شدّدوا «على متابعة الإجراءات القضائية لمحاسبة المقصرين، ومعالجة التداعيات التي تسببت بهذه الحادثة».
أما رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، الذي ينتظر نتائج التحقيقات الرسمية، فقد أصدر أمراً ديوانياً بتشكيل «خلية أزمة» في المحافظة، برئاسته بشكل مباشر، تأخذ على عاتقها تسيير المهمات التنفيذية، لحين اتخاذ مجلس المحافظة قراراته في ضوء التحقيقات الجارية، داعياً محافظ نيوى نوفل العاكوب إلى «التقيد التام بما ورد في الأمر». مباشرةً، اتخذ المجلس سلسلة إجراءات؛ من إحالة العاكوب إلى التحقيق (على خلفية حادثة العبّارة، واعتداء حمايته على المواطنين)، وسحب الرخصة الاستثمارية لـ«الجزيرة السياحية»، وإحالة إدارتها ومستثمرها إلى القضاء، فضلاً عن اعتبار الضحايا شهداء، وتعويض الناجين بما يلائم حجم الضرر.
حتى الآن، لم تُنه الجهات الرسمية تحقيقاتها، وفق جهات مطلعة على سيرها، «تأسف» لاستثمار الحادثة من قِبل القوى السياسية، رغم «الغضب الجماهيري، والذي عُبّر عنه بالهجوم على موكبَي رئيس الجمهورية، والمحافظ». الجهات نفسها، تؤكّد في حديثها إلى «الأخبار»، أن «الموصل تشهد صراعاً سياسياً، وقد جاءت الحادثة لتخدم ما جرى... فلا يمكن أن نستثني أحداً من تهمة الفساد، كما أنها أصبحت جاهزة للاستعمال عند أي خصومة سياسية». توضح المصادر حديثها بأن «ثمة حراكاً لإعادة النجيفي إلى واجهة المشهد الموصلي مجدّداً»، في إشارة إلى المحافظ السابق أثيل النجيفي (أحد المتهمين بتسهيل سقوط الموصل بيد «داعش»، والمناهض لوجود «الحشد الشعبي» في المحافظة) الملاحَق بتهم قضائية، والساعي بشتى الوسائل لـ«حلحلة» تلك التهم، والعودة مجدداً إلى العمل السياسي.
من هنا، يمكن النظر إلى تبعات الحادثة كمحطة من محطات الصراع بين شخصيات وقوى للإمساك بقرار المحافظة/ المدينة، أمنياً وسياسياً على السواء. قبل أيام، قدمت «اللجنة البرلمانية لتقصّي الحقائق في الموصل» أول تقاريرها حول أسباب تردّي الواقع الأمني في المحافظة، وقد أوصت بإقالة المحافظ، وإحالة مدير «الدائرة الهندسية والعقود» على التحقيق، ومحاسبة سارقي النفط ومهرّبيه من «مصفى القيّارة»، بعد تشخيصهم. اجتماعات اللجنة شهدت خلافات حادة في الرأي، في وقت اتهم فيه رئيسها أسامة النجيفي، العاكوب، بـ«التورط في خروقات ومخالفات مالية غير مسبوقة»، مطالباً بـ«سحب يده ومحاسبته».
تشهد الموصل صراعاً بين شخصيات وقوى عدّة للإمساك بقرارها الأمني والسياسي


هذه الخلافات يفنّدها مصدر سياسي في حديثه إلى «الأخبار»، موضحاً أن الرأي الأول هو للنائب عبد الرحيم الشمري، الذي دعا إلى إقالة «قائد الشرطة». أما الثاني فهو للنجيفي الداعي إلى إخراج قوات «الحشد»، علماً بأن وجود «الحشد» هناك مقتصر ــــ وفق المصادر ــــ «على قيادة العمليات، وبعض عناصر أمن الحشد». وتؤكد المصادر أن «الواقع مغاير لما يُروَّج»؛ فـ«الشخصيات التي اتهمت الحشد، في التقرير، بانتهاك أملاك الموصليين، هي نفسها من تغطي فصائل مسلحة تمتهن القتل والخطف وجلب الإتاوة». أما الرأي الثالث فللنائب أحمد الجبوري، ويدعو إلى إقالة المحافظ.
العاكوب جزءٌ من الفساد هناك، وهذا محسوم. غير أن السبب الرئيس لاتهامه بذلك، هو حضوره الدائم إلى جانب قيادة «الحشد» إبّان عمليات التحرير، الأمر الذي يدفع القوى المناهضة له إلى الضغط بقوة لإقالته، في ظل خطاب طائفي عاد ليتصدر المشهد، ويهدد بعودة «جديدة لداعش». تلك القوى نفسها ستواصل في استثمار الحادثة، والعاكوب يبدو أول «الساقطين» بفعل ذلك. أما أكثر المتشائمين، فيذهب إلى حدّ طرح أسئلة حول ما إذا كان الحادث مدبّراً أم أنه قضاء وقدر، وخصوصاً أن إدارة «الموارد المائية» سبق أن حذّرت من أي حادثة مماثلة قبل أيام، نظراً إلى زيادة منسوب النهر وقوة تياره، وعزم إدارة سد الموصل على فتح إطلاقاته لإفراغ فائضه.