يحتدم الحوار في فرنسا حول مصير عائلات الجهاديين وإمكانية السماح بعودتهم من سوريا والعراق، في ظلّ معارضة غالبية الرأي العام الفرنسي لذلك. وإذا كان قسم كبير من الألفَي جهادي الذين انضمّوا الى «داعش» قد قُتل أو أُعيد إلى فرنسا، حيث أدين وسجن، فإن مسألة عودة القسم المتبقي تثير انقساماً كبيراً بين الخبراء والسياسيين.في أواخر شهر كانون الثاني/ يناير، أشارت وزيرة العدل الفرنسية، نيكول بيلوبي، إلى احتمال تحقّق هذه العودة بعد الإعلان عن قرار الانسحاب الأميركي وما يترتب عليه من شكوك بالنسبة الى استمرار اعتقال الجهاديين ومحاكمتهم. لكن مع بداية شهر آذار/ مارس، تراجعت السلطات الفرنسية، التي كانت مؤيدة لهذا الخيار للحؤول دون خطر هروب أيّ من الجهاديين، عن موقفها تحت ضغط الرأي العام. فبحسب استطلاع للرأي نشره مركز «أودوكسا ــــ دنتسو كونسالتينغ»، يتمنى 67% من الفرنسيين معارضة سلطات بلادهم لعودة المئات من أبناء الجهاديين الفرنسيين.
في المقابل، قدّم ثلاثة محامين فرنسيين شكوى أمام لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة ضدّ بلادهم، التي يتنافى موقفها مع بنود الاتفاقية الدولية لحقوق الأطفال التي وقعتها باريس عام 1990. ويدافع بعض الخبراء الفرنسيين عن ضرورة عودة الأطفال ما دون السبعة أعوام؛ كونهم لا يتحملون تبعات أفعال أهلهم، لإبعادهم عن التأثير الأيديولوجي لهؤلاء. وقد سبق للدولة الفرنسية أن استعادت 84 من أبناء الجهاديين، وأصبحوا اليوم تحت رعايتها.
لكن الخبير الجيوسياسي، بيير كونيسا، رأى، في مقابلة مع برنامج تلفزيوني، أن هذا الخيار ليس حلاً، لأن انتزاع طفل من أهله هو استثناء في القانون الفرنسي، ولأن استعادة الأطفال الصغار السن قد تفرض أيضاً استعادة أمهاتهم، ما يفاقم المشكلة الحالية. وأكد فرهاد خوسروخوفار، عالم الاجتماع ومدير مرصد التطرف في «معهد علوم الإنسان»، من جهته، في البرنامج نفسه، أن الفرنسيات اللواتي ذهبن للانضمام الى تنظيم «الدولة الإسلامية» ضحايا؛ لكونهن زوجات جهاديين ولَسْن جهاديات، كما كانت حال أقلية من النساء انتسبن إلى «كتيبة الخنساء» وتورّطن في جرائم حرب.
حجّة الذين يطالبون بالتعامل مع مسألة العودة انطلاقاً من دراسة كل حالة من الحالات المعنية على حدة، غير مسموعة. الهستيريا الأمنية المنتشرة في الوقت الراهن تهوّل من خطورة الأمر ومن التهديد الإرهابي الناجم عنه على المواطنين الفرنسيين. الخطاب السائد يوصي باعتماد مبدأ الوقاية عبر إتاحة محاكمة الجهاديين الفرنسيين في سوريا والعراق. يشير أصحابه إلى صعوبة إعداد ملفات اتهامية جدّية بحق كلّ من الجهاديين نتيجة ضعف الإثباتات والقرائن المرتبطة بأفعالهم، ما سيدفع القضاء الفرنسي إلى إصدار أحكام تتضمن عقوبات رمزية. الموقف الذي يتبنّاه الخبير السياسي والدستوري، أوليفييه دوهاميل، والذي يعتبر أن احترام القانون ينبغي أن يكون غير مشروط، وأن مبادئه يجب أن تُطبّق على جميع الفرنسيين، بمن فيهم المتهمون في قضايا إرهاب، والذي يرفض المفهوم التعميمي للجهاديين، ويدعو إلى التركيز خلال تناول ملفات المتهمين على مفهوم المسؤولية الشخصية عن أفعال محددة، لا يلقى هو الآخر آذاناً صاغية.
يفضّل أنصار الرأي المقابل المطالبة بنزع الجنسية الفرنسية عن الجهاديين لحرمانهم من حقوقهم. هذا ما يعتقده رئيس تحرير أسبوعية «ماريان»، الذي حثّ في افتتاحية كتبها في كانون الثاني/ يناير على «عدم منح الحرية لأعداء الحرية». وفي مواجهة «خطاب حقوق الإنسان، الصادق لكن الخطر»، يشجّع أنصار الرأي المتشدد على التصفية الجسدية للجهاديين، أو على الأقلّ تركهم يحاكَمون أمام القضاء المحلي من دون ضمانات بأن تكون المحاكمات عادلة، وألا تفضي تلقائياً إلى الإدانة والحكم بالإعدام.
سجّل العديد من المراقبين في السنوات الأخيرة ردة على المستوى المؤسساتي، وتزايداً للممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان في إطار سياسات مكافحة الإرهاب في فرنسا. وعبر تخلّيها عن القواعد الأساسية للقانون الجزائي في تعاملها مع ظاهرة الجهاديين، تقترب فرنسا تدريجياً من تبني نموذج «مكافحة الإرهاب» الإسرائيلي الذي يحظى بإعجاب نخبها السياسية والإعلامية. وكان هذا النموذج قد بلور ترسانة قانونية لتجاهل جميع الضمانات الإجرائية المعتمدة تقليدياً في المحاكمات كضرورة توفر الأدلة، ولشرعنة الاعتقال لمدة زمنية غير محددة في ظلّ غياب أسباب موجبة أو إدانة أو حتى محاكمة.