منذ دعوة واشنطن إلى حلّ سياسي داخلي، تبدو القرارات التي دشّنها الرئيس عمر البشير بخطاب يوم الجمعة الماضي، بعد يومين من مغادرة المساعد الخاص للرئيس الأميركي وكبير مستشاريه لشؤون أفريقيا في مجلس الأمن القومي سيريل سارتر العاصمة الخرطوم، أكثر منهجية في مواجهة الاحتجاجات المستمرة، والتي تركز على مطلب تنحّي البشير. «الوصفة» التي يتبنّاها الأخير تتضمن عسكرة السلطة بحلّ الحكومة المركزية وحكومات الولايات، وتعيين أعضاء وولاة عسكريين، وتغليف إجراءات القمع ضدّ المتظاهرين بحالة طوارئ. وهي إجراءات تبعها، أمس، تخلّيه عن رئاسة حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم، في قرار غير مفاجئ، سبق وأن أعلن عنه مدير جهاز الأمن والمخابرات، صلاح قوش، قبيل ساعات من خطاب البشير. لكن ضغوطاً مورست على الرئيس في اجتماع المكتب القيادي لـ«المؤتمر» (والذي سبق الخطاب) أدت إلى تعديل الفقرة المتصلة بالتخلي عن الحزب، والاستعاضة عنها بأن البشير سيكون على مسافة واحدة من كل الأحزاب، في إطار تحقيق البعد القومي الذي ينشده الرئيس، بما يجعل نظامه يتوافق أكثر مع الولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين.
حزب جديد
لا ينفصل قرار البشير التخلي عن الحزب الحاكم عن خلافات لم تعد «صامتة» تعصف بداخل «المؤتمر الوطني»، بين الرئيس كممثل للعسكريين الذين أتى بهم إلى السلطة وعيّن منهم ولاة وأعضاء في الحكومة (يسيطر الحزب على مقاليد السلطة منذ 1989 عبر ذراعه العسكرية داخل الجيش)، ومدنيين «إصلاحيين» من أعضاء الحزب يرفضون إعادة ترشيح البشير، ويسعون إلى اختيار قيادة جديدة، وربما تغيير اسم الحزب. وفي هذا الإطار، تبرز تقديرات بأن البشير يسعى إلى إنشاء حزب جديد، لكن الأمين السياسي للحزب الحاكم، عمر باسان، يستبعد الأمر في حديث إلى «الأخبار»، مشيراً إلى أن «كل هذه التطورات محل نظر وفق المرحلة الجديدة التي دخلتها البلاد عقب خطاب الرئيس»، مضيفاً أن «حزب المؤتمر الوطني يمر بمرحلة تغيير انتقالي».
في المقابل، ذهب القيادي في «المؤتمر الوطني»، قطبي المهدي، إلى توقع تخلي البشير عن الحزب الحاكم وليس رئاسة الجمهورية، ومن ثم تكوين حزب جديد منفصل عن «المؤتمر الوطني»، عازياً ذلك إلى أن «الرئيس لم يعد مقتنعاً بالمؤتمر الوطني، وبات يُحمّله معظم فشل المرحلة الماضية»، مرجحاً أن «تذهب بعض قيادات المؤتمر الوطني مع حزب البشير الجديد»، وفي الاتجاه نفسه، ذهب إسلاميون كثر أيضاً، من بينهم مؤسس «الحركة الوطنية للتغيير»، فتح العليم عبد الحي، الذي قال إن «الاتجاه الغالب أن الرئيس سيكون له حزبه الخاص»، في حين برّر القيادي في الحزب، والخبير في الشؤون القانونية، إسماعيل الحاج موسى، القرار المحتمل بأن «المؤتمر الوطني لم يستطع مناهضة حركة الشارع ودعم الرئيس البشير»، معتبراً أن تكوين الرئيس لحزب جديد «سيضعف المؤتمر الوطني جداً، لأنه يعتمد على سلطاته بوصفه حزب الرئيس». وتساءل القيادي في الحزب، السفير حاج ماجد سوار، من جهته، عن إمكانية أن «تشهد الفترة المقبلة تصفية المؤتمر الوطني وقيام حزب جديد بعيداً عن رموز وإرث الإسلاميين؟».

تعليق العمل بالدستور؟
خطوات البشير لا تنبئ بأنه يهيئ لمغادرة الساحة السياسية. فهو لم يظهر إشارات إلى أنه سيخرج من السلطة، ولا يزال بالتالي يتطلع إلى دورة رئاسية أخرى. صحيح أن دعوته البرلمان إلى تأجيل التعديلات الدستورية التي ستسمح له بمدة حكم إضافية تشي بأنه لن يشارك في الانتخابات، إلا أن إعلانه حالة الطوارئ لمدة عام يمكّنه من تعليق العمل بالدستور، وملاحقة خصومه السياسيين وإقصائهم تحت عناوين شتى أوردها في أربعة أوامر طوارئ أعلن عنها الإثنين الماضي.
وما يعزز احتمال اتجاه البشير إلى تعليق العمل بالدستور، أنه لم يُبد اكتراثاً بنسبة الثلثين التي يحتاجها في أي عملية تعديل للدستور. إذ إن عسكرة السلطة، وإقصاء التيار المعارض لترشح البشير داخل الحزب الحاكم، يزيدان من فرص تحالف أحزاب المعارضة ونواب آخرين مستقلين مع نواب ينتمون إلى الحزب الحاكم ويرفضون مبدأ إعادة الترشيح، ما يمنحهم القدرة في البرلمان على رفض أي مقترح تعديل للدستور، خصوصاً أن معارضي الفكرة كثر، لكنهم يخشون الإعلان عن ذلك لتجنب فصلهم من الحزب من قِبَل مؤيدي البشير الذين يمسكون بزمام الأمور.
وهذا ما عبر عنه الأمين العام السابق للحزب الحاكم، الشفيع أحمد محمد، بالقول إن «90 في المئة منهم (ممن يؤيدون الفكرة) هم ضدها، لكنهم لا يستطيعون المجاهرة بذلك، فقط لأنهم يريدون حفظ حظوتهم عنده (البشير)»، خشية أن يحصل معهم ما حصل مع الأمين العام الأسبق، غازي صلاح الدين، الذي قاد حملة إصلاحية منذ عام 2011 وحتى 2013، انتهت بفصله وكل من كان معه. لكن ثمة مجموعة معارضين داخل الحزب ارتأت إفشاء الخلاف، كالوزير السابق وعضو البرلمان الحالي، أمين حسن عمر، الذي أعلن معارضته إعادة ترشح البشير في أكثر من مناسبة (سبق أن عارض ترشيح البشير في عام 2015)، وجلال من الله جبريل، الرئيس السابق للمجلس التشريعي لولاية الجزيرة، والذي أصدر البشير قراراً بحله على خلفية خلافات بين المجلس ووالي الولاية محمد طاهر إيلا، الذي عينه الرئيس أخيراً رئيساً لمجلس الوزراء، من دون مشاورة الحزب.