بعد أسابيع من القتال على أطراف درنة، الصيف الماضي، تمكنت قوات المشير خليفة حفتر من دخول أغلب مناطق المدينة. في 28 حزيران/يونيو 2018، خرج قائد جيش شرق البلاد ليعلن في كلمة متلفزة «عودة درنة إلى حضن الوطن»، لكن ثبت أن هذا التقدم، الذي جاء بدعم من مقاتلين قبليين وطائرات إماراتية وفرنسية، كان متسرعاً.على مدى الأشهر الثمانية الأخيرة، تمكنت التشكيلات الناشطة ضمن تحالف «قوة حماية درنة»، الذي يمثل مقاتلو «مجلس شورى مجاهدي درنة» القريب من أيديولوجيا تنظيم «القاعدة» عموده الفقري، من الحفاظ على موطئ قدم داخل الأحياء القديمة وسط المدينة. يكمن سر هذا الصمود في التحصينات والأنفاق وباقي البنى التحتية ومخازن الأسلحة التي تم العمل عليها طوال الأعوام الأخيرة، ثم في تكتيكات حرب المدن التي أطالت أمد المواجهة.
لكن في الأشهر الأخيرة، وبينما كانت الأنظار متجهة إلى التطورات في طرابلس والهلال النفطي وجنوب البلاد، كانت تبرز بين فينة وأخرى أخبار عن سقوط عدد من مقاتلي حفتر بأعداد كبيرة في بعض الأحيان شملت ضباطاً مهمين. لم تكن الخسائر في اتجاه واحد، إذ تم أيضاً إلقاء القبض على شخصيات مهمة تنشط في صفوف مقاتلي درنة، أبرزهم الضابط المصري المنشق، والمسؤول عن كمين الفرارة في مصر، هشام عشماوي، إضافة إلى المسؤول الأمني في التنظيم يحيى الأسطى عمر.
السبت الماضي أصدرت حكومة شرق البلاد غير المعترف بها دولياً، التي يرأسها عبد الله الثني، بياناً باركت فيه «انتهاء العمليات العسكرية في درنة وتطهيرها كاملة من الإرهاب». لكن، على غرار الإعلان الماضي، اكتنى الأمر بعض التسرع. لم تأتِ الضربة الحاسمة حتى مساء أول من أمس، حينما أعلنت «غرفة عمليات عمر المختار»، التي تشرف على الحرب من جهة حفتر، وجود جثث 55 قتيلاً، وإلقائها القبض على آخرين. من بين القتلى بعض أهم القياديين، منهم المتحدث باسم التنظيم محمد المنصوري، والقائد السابق في «أنصار الشريعة» عصام المنصوري. أما الأحياء الذين سلموا أنفسهم، فأهمهم المتحدث السابق باسم «مجاهدي درنة» حافظ الضبع، والقيادي الموريتانيّ رشيد عبد الله (يكنى بأبي حفص).
لم تكن الحرب بلا تكاليف أخرى، إذ قضى، وفق تقارير منظمات حقوقية، عشرات المدنيين في عمليات القصف، كما سُجلت عمليات إعدام ميداني واختفاء قسري، ويضاف إلى ذلك الدمار الكبير الذي تظهره صور الأقمار الصناعية في البنى التحتية خاصة في منطقة المدينة القديمة، فيما لا تزال الألغام الأرضية منتشرة وقد تودي بآخرين.
على المستويين العسكري والسياسي، يمثل هذا الانتصار دفعة لحفتر وحكومة شرق البلاد، خاصة في حربهما الدائرة الآن جنوب البلاد، التي شهدت نجاحات معتبرة، لكنها بدأت في التعثر مع اقترابها من حقول النفط الكبرى بسبب رغبة حكومة «الوفاق الوطني»، المتركزة في طرابلس، في الحفاظ على وجودها في المنطقة.
عملياً، صار شرق البلاد برمته تحت سيطرة قوات خليفة حفتر، ما يتيح لها التفرغ للجنوب الشاسع الذي يحوي تمركزات لبقايا القوات المناوئة له، سواء التي فرت من درنة أو من منطقة الهلال النفطي، وكذلك تنظيمي «داعش» و«القاعدة»، وتشكيلات من المعارضة التشادية المسلحة. يُقرأ كل هذا من منظور مقارن مع ما تشهده حكومة «الوفاق» التي يرأسها فائز السراج في طرابلس وبقية المناطق الغربية، إذ لم تستطع حتى الآن احتواء الميليشيات وتشكيل قوات نظامية منضبطة، كما صار الدعم الدولي لها في تراجع، ما يُكسي حفتر مزيداً من الدعم ويقوده إلى محاولة الزحف عسكرياً على غرب البلاد.