مع دخول الأزمة السياسية في البحرين عامها التاسع، لم يعد المشهد الحقوقي في البلاد يشبه ما كان عليه منذ سنوات. لقد تغيّر كل شيء على نحو دراماتيكي. صحيح أن الانتهاكات لم توفر أحداً، إلا أن المائز فيها هو قدرة السلطات على ابتكار أشكال جديدة من القمع السياسي، خصّصت لها عدة روافع بغرض قلب الحقائق، ومنها الرافعة الإعلامية المتمثلة في الإعلام الحكومي، والإعلام الخليجي، والجيوش الإلكترونية، وجميعها متورط في خطاب الكراهية. أما الرافعة المدنية فتمثلها منظمات «غونغوز»، وهي مؤسسات غير حكومية تابعة للسلطة، مهمتها الأساسية مناكفة المنظمات الحقوقية المستقلة. ثم تأتي الرافعة القضائية، متمثلة في سلطة قضائية غير مستقلة، تلاحق الضحايا وتحمي الجناة، وتعتمد على التفسير التعسفي للتشريعات والشهود السرّيين (الأشباح) في القضايا السياسية. وأخيراً الرافعة السياسية، وهي وزارة الخارجية البحرينية، واللجان البرلمانية المُزوّدة بتقارير كاذبة حول الأوضاع المحلية.يحلّ الـ14 من شباط/ فبراير 2019 والبحرين واجهتها كالآتي: أحزاب معارضة رئيسية جرى حلّها، لا مجال لممارسة العمل السياسي المعارض أو الحقوقي المستقل في الداخل، ارتفاع تعداد المحكومين بالإعدام وإسقاط الجنسية، الحظر الشامل للتظاهرات، تردّي أوضاع السجون، شرعنة العزل السياسي، التعبير عن الرأي ولو بـ240 حرفاً سيكون مصيره السجن 5 سنوات على الأقل كما حدث لنبيل رجب، التعاطف ــــ ولو عبر تفقّد ساحة الاعتصام التي قُمِعَت بجوار منزل آية الله عيسى قاسم ـــ سيكون سبباً للاعتقال التعسّفي كما حدث لرئيس «المجلس الإسلامي العلمائي» مجيد المشعل، السعي لمبادرة حل سياسي سيتحول إلى تهمة جاهزة بوصفه جريمة تخابر كما حدث للشيخ علي سلمان، من غير المسموح أن تنتقد الحكومة ولو كنت في موقع المفوض السامي، كما حدث للمفوض السابق الأمير زيد بن رعد، الذي تحوّل إلى أحد ضحايا خطاب الكراهية في البحرين بسبب انتقاده الأوضاع الحقوقية.

مقابر الأحياء
يمثل تردّي أوضاع السجون الوجه الآخر للاعتقال التعسّفي، حيث يقبع السجناء في مؤسسات «إصلاحية» لا تلبّي القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء، وتوفر بيئة خصبة للتعذيب وسوء المعاملة وتعزيز سياسة الإفلات من العقاب. لقد تم رصد أكثر من 14 ألف حالة اعتقال تعسّفي منذ 2011، فيما يقبع في السجون الآن أكثر من 4000 سجين رأي. وفي حين لا يزال الإعلام الرسمي، حتى اليوم، يحرّض على سجناء الرأي عبر المئات من المواد الإعلامية المشحونة بالكراهية، أسهم التطور السريع للإفلات من العقاب في تشكّل مجموعة داخل المنظومة الأمنية من «جناة التعذيب». هؤلاء تربطهم مصالح مشتركة، ولا يتحلّون بأدنى معايير الإنسانية، وهم اعتادوا استخدام الأسماء المستعارة، وإخفاء وجوههم عن الضحايا أثناء ممارسة التعذيب. واقع يشمل جميع السجون الرسمية الأربعة في البحرين، إلا أنه يتركز بشدة في سجن الحوض الجاف (مركز الحبس الاحتياطي)، وسجن جو المركزي (مركز حبس المحكومين)، حيث تتنوّع ممارسات التعذيب، ويُعدّ أبرزها التعذيب بالكهرباء، الذي تعتبر البحرين «رائدة» في مجاله؛ لوجود عناصر أمن يتفنّنون في صعق أجساد الضحايا بالأسلاك الكهربائية، ويصل بهم الأمر حدّ تصوير بعض جلسات التعذيب، وتهديد ضحاياها بنشر مقاطع لهم وهم عراة.

خنق المجتمع المدني
تركّزت المهمة الأساسية للمنظومة الأمنية منذ عام 2016 على إلغاء المعارضة السياسية وشطب المجتمع المدني. لذلك، تم اللجوء إلى أشكال متعددة من القمع تنوّعت ما بين: إجراءات أمنية وقضائية، وتحريض إعلامي لتقويض حرية تكوين الجمعيات وملاحقة القيادات المعارضة، وحظر تطوير العلاقات الدبلوماسية وتعطيل بعضها، والحظر غير المعلن على إنشاء منظمات جديدة مستقلة، والعزل السياسي، وألغام تشريعية تم تحريك بعضها بعد 2011، والأخطر دور «جهاز الأمن الوطني» الذي لاحق الناشطين إما بالتعذيب الشديد أثناء التحقيق، أو التهديد باستهداف مصالحهم التجارية ومصادرة ممتلكاتهم.
اعتُقل 14 ألف شخص تعسّفاً، فيما يقبع في السجون الآن أكثر من 4000 سجين رأي


ممارسات يشكّل القانون رافداً لها، كما هي حال المادة 163 التي تجرّم تأسيس أو إدارة أي منظمة غير مرخصة أو الانضمام إليها، والمادة 11 من قانون الجمعيات الأهلية التي تتيح رفض طلبات تسجيل المنظمات من خلال التفسير التعسّفي للقانون، وأيضاً حلّ الجمعيات أو إيقافها مؤقتاً أو تعيين مديرين لها أو مجالس إدارة أو دمجها مع جمعيات أخرى، وكل ذلك بموجب أسباب غامضة (المواد 50، 23، 24). وعلى المنوال نفسه يسير قانون الجمعيات السياسية في كثير من المواد المتضمّنة الإجراءات نفسها؛ فعلى سبيل المثال يسمح القانون لوزارة العدل برفع دعاوى قضائية لحلّ الجمعيات السياسية أو إيقافها من دون تحديد ماهية المخالفات (المادة 23)، وهو ما استفادت منه السلطة في حلّ جمعيات «الوفاق» و«وعد» و«أمل».

الاشتباك الدبلوماسي
تخصّص البحرين موازنة كبيرة لحملات العلاقات العامة التي تشتغل عليها وزارة الخارجية، ويقود فريقها مساعد وزير الخارجية عبد الله الدوسري، من خلال المشاركة الدورية في أعمال مجلس حقوق الإنسان، أو التعليق على تقارير لجان المعاهدات الدولية، أو مواجهة عمل المنظمات الحقوقية المستقلة عبر التواصل مع آليات الأمم المتحدة. وعلى رغم تكبيل المجتمع المدني والانتقام من الحقوقيين بسبب تعاونهم مع آليات الأمم المتحدة، إلا أن تقارير الدبلوماسية البحرينية لم تتمكن من إيقاف الإدانات الحقوقية أو تخفيض سقفها. صحيح أن تلك الإدانات لا تتجاوز المستوى اللفظي، بيد أن استمرارها في ظلّ سحق المجتمع المدني يمثل فشلاً ذريعاً للخارجية البحرينية في إيقاف الاشتباك الدبلوماسي في أروقة الأمم المتحدة مع الجهات الحقوقية.
يضاف إلى ذلك، لم تتمكن «الغونغوز» التي تستعين بها السلطة من اكتساب أي مصداقية أمام الجهات الأممية. أما «المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان» فليست أفضل حالاً، على الرغم من تخصيص أكثر من مليوني دولار موازنة لها في 2018، إلا أنها فشلت في الحصول على التصنيف «أ» لدى الاعتمادية الدولية، ومن أهم إنجازاتها ـــ بحسب تقرير الخارجية البحرينية المُقدّم للجنة حقوق الإنسان ـــ «إصدار النشرات والمطبوعات والبيانات والتقارير الخاصة»! وقبالة ذلك، استمر الاحتفاء الدولي بالحقوقيين البحرينيين مثل نبيل رجب، الذي مُنح صفة المواطنة الشرفية من بلدية باريس رغم أنه في السجن.
*رئيس «منتدى البحرين لحقوق الإنسان»