يحاول الرئيس عمر البشير التخفيف من حدّة غضب الشارع السوداني، من خلال مسارين: سياسي واقتصادي. الأول بالدعوة إلى انتظار انتخابات 2020 لتكون صناديق الاقتراع السبيل الوحيد لتغيير النظام، والتأكيد أن ذلك لن يتمّ من خلال «فيسبوك وواتسآب»، في إشارة إلى «تجمع المهنيين» المدعوم من قوى المعارضة. والثاني بالإقرار بأحقية مطالب المحتجين والظروف المعيشية، وهو ما اعترف به أخيراً رئيس الحكومة معتز موسى، ووزير الدفاع محمد أحمد بن عوف، باعتبارهما التظاهرات «مشروعة».وبينما تؤكد التظاهرات المستمرة عدم استجابة المحتجين، ولا سيما الشباب، لتحذيرات السلطات من «الفوضى» وتحويل مواطني البلاد إلى «لاجئين»، كما قال أمس القيادي في حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم، محمد المصطفى الضو، يجد البشير أن استخدام العنف المفرط، الذي راح ضحيته أكثر من 50 شخصاً بالرصاص، يتحوّل إلى أن يكون السبب الرئيس للتظاهرات، التي تجدّدت أمس في العاصمة الخرطوم وعدد من مناطق البلاد، إذ خرجت إحداها بالآلاف احتجاجاً على مقتل المدرّس أحد الخير (36 عاماً) بعد اعتقاله من منزله في بلدة خشم القربة. أما في باقي المناطق، فانطلقت تظاهرات مماثلة تحت عنوان «الحراك الثوري»، وفق ما أطلق عليها «تجمع المهنيين».
مواجهة التظاهرات بالعنف أثارت حملة انتقادات من دول غربية حذرت من تداعيات ذلك على العلاقات معها، بما يهدّد البشير بالعودة إلى مربع العزلة. وتجدّدت تلك الضغوط، أول من أمس، مع اعتماد مجلس الأمن الدولي بالإجماع قراراً صاغته واشنطن، يدعو إلى تمديد ولاية لجنة العقوبات الدولية على البلاد حتى آذار/ مارس 2020. وتنقسم العقوبات إلى مجموعتين هما: الحظر المفروض على الأسلحة وحظر السفر، وتجميد أصول الأشخاص المتورّطين في الصراع الدائر منذ أكثر من 11 عاماً في إقليم دارفور. وقد مُدّد لها على رغم محاولات الخرطوم خطب ودّ واشنطن أخيراً، سعياً لرفع اسم السودان من قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، وهو ما كانت تأمل الخرطوم حدوثه في شهر حزيران/ يونيو المقبل، كما قال وزير النفط أزهري عبد القادر قبل حوالى ثلاثة أسابيع، كاشفاً عن مفاوضات كانت جارية مع الجانب الأميركي لإكمال عملية إزالة المقاطعة بشكل كامل خلال هذا العام.
يحظر على السودان الحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي


لكن بعيداً عن الضغوط الخارجية، تبدو سياسة البشير الخارجية، وفساد منظومة حكمه داخلياً، السببين الرئيسين للأزمتين الاقتصادية والسياسية في البلاد. وهو اليوم يعود إلى الخطأ نفسه الذي ارتكبه عام 2013، حين اندلعت موجة وُصفت بأنها الأوسع احتجاجاً على رفع أسعار المحروقات (خلّفت 86 قتيلاً وفق الأرقام الرسمية). حينها، قرّر البشير البحث عن دعم خارجي عام 2014، فقطع علاقاته مع إيران في تغيير جذري، وتحوّل إلى المحور السعودي، بغية المساهمة في إقناع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما برفع العقوبات الاقتصادية والتجارية التي فرضتها الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عام 1997 حتى عام 2017. حصل البشير في حينها على رفع جزئي للعقوبات، لكن ذلك لم ينعكس انفراجة اقتصادية، بل توالى ارتفاع أسعار السلع، محطّماً كل التوقعات. وتبدو النتيجة العكسية مستمرة، وفق ما يؤكد تحميل البشير واشنطن مسؤولية الأزمة الاقتصادية، في ظلّ استمرارها في إدراج السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو ما يحظر على السودان الحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، في وقت هو فيه بأمسّ الحاجة إليه.
وفضلاً عن تداعيات العقوبات، لم تنعكس خيارات البشير الخارجية إيجاباً على اقتصاد البلاد المتأزم، منذ بدء مشاركته في العدوان على اليمن. إذ تصاعدت الأزمة الاقتصادية مولّدة تظاهرات وعصياناً مدنياً عام 2016، إثر رفع الدعم عن الوقود والكهرباء والأدوية، قبل تحوّلها إلى أزمة سياسية، حَلّ البشير على أثرها حكومة «الوفاق الوطني» بعد أقلّ من عام على تشكيلها، وقبل ثلاثة أشهر من الاحتجاجات الحالية. وهو اليوم يكرّر اللجوء إلى الدعم الخليجي، إذ يسعى (منذ اليوم الأول للاحتجاجات) إلى استقطاب مساعدات من مختلف الدول المتنافسة على البحر الأحمر، كالسعودية وتركيا ومصر، إلا أن تلك المساعدات لم تسهم في خفض وتيرة الاحتجاجات، في ظلّ تقديرات بأن معالجة الأسباب تحتاج إلى أشهر أو أكثر، ولا سيما أزمتي الوقود والسيولة النقدية لترابطهما بعضهما ببعض.