انتهت إذاً هذه «الزيارة التاريخيّة إلى دولة الإمارات»، وعاد الحبر الأعظم أدراجه إلى الفاتيكان، تاركاً وراءه آثار دعسات مباركة على رمال الخليج العربي، وأصداء كلمات نبيلة عن «الأخوّة الإنسانيّة» و«الحوار» و«التسامح». وهذا، بحد ذاته، يستحق التحيّة، إذ لا شك في أنّها لحظة تاريخيّة مهمّة. فكل زيارة بابويّة إلى ديار الإسلام في زمننا، مع الرسالة التي يحملها البابا فرنسيس اليوم، لها تأثير مهم على منطقتنا العربيّة - الإسلاميّة، ولها وقع إيجابي على «مقهوري الأرض»، أهل هذا المقلب من العالم: إذ يكتشف هؤلاء وجهاً آخر لـ «الغرب المسيحي»، وجهاً مختلفاً عن ماضيه الاستعماري، وإرسالياته «التبشيريّة» التي سبّبت طوال قرون تدميرَ ثقافات، واحتلال بلدان، واستلاب شعوب، وسرقة ثروات وموارد طبيعيّة. أي باختصار كل ويلات الاستعمار، وفظائعه التي ما زلنا ندفع ثمنها إلى اليوم، تحديداً مع الجرح الفلسطيني الذي لم يلتئم بعد سبعين عاماً، ولم يُشفَ من طعنات «الرجل الأبيض». ألم يقم الاستعمار أساساً على ذرائع دينيّة، مثالها الأبلغ «الحملات الصليبيّة»، تلك التي قاتل ضدّها أهل هذه الأرض من مسلمين ومن مسيحيين عرب، كما تذكر صفحات مؤلمة إنما مشرقة من تاريخنا؟لكنّ زيارة أبوظبي، ليست الأولى لبابا روما الحالي، حاملاً رسالة «الوئام» و«السلام»، إلى بلدان عربيّة، أو ذات أغلبية مسلمة. كانت له جولات في أذربيجان وبنغلادش وتركيا، من دون أن ننسى مصر في نيسان/ أبريل 2017. ومن المقرر أن تكون محطّته المقبلة المملكة المغربية في آذار/ أبريل المقبل. وقد أبرق النائب «المعارض» سامي الجميّل للبابا عبر «تويتر» يدعوه إلى زيارة لبنان (الذي احتضن في تاريخه ثلاث زيارات بابويّة قبل وصول فرنسيس إلى الكرسي الرسولي). الجديد الذي توقّف عنده، خلال الأيام الماضية، كل المعلقين والمراقبين والإعلامين حول العالم، بمزيج من الدهشة والحماسة والتشكيك أحياناً، هو قيام أعلى مرجع في الكنيسة الكاثوليكية، خليفة القديس بطرس على الأرض، بزيارة شبه الجزيرة العربية. إذا شئنا أن نركز - بكل رومنسيّة - على الوجه الإيجابي، سنقول: زار الحبر الأعظم مهد الرسالة الإسلامية، داعياً إلى العناق والتواشج بين الديانتين السماويتين.
أما إذا أردنا أن نكون واقعيين، ونتوقّف عند الجانب الإشكالي، الذي يدعي الجميع تجاوزه اليوم بسحر ساحر، فسنقول إنّه زار منطقة هي موئل التزمّت والانغلاق، ومهد الفكر الظلامي والأيديولوجيا التكفيرية التي تدمّر العالم العربي - الإسلامي. أيديولوجيا طاولت شظاياها المؤلمة «الغرب المسيحي» في العقود الأخيرة، حتّى انتشر في أكثر من حاضرة غربية نوع جديد من الطاعون اسمه «الإسلاموفوبيا» أو «رهاب الإسلام». لا نتحدّث عن الإمارات حصريّاً، فهي تعرف خليطاً غريباً من الانفتاح والتزمّت، على صورة نهضتها الاقتصادية الهجينة التي شبّت في فترة زمنية قصيرة نسبياً، ما جعل 85 في المئة من قاطنيها من الأجانب المقيمين لكسب الرزق. وهؤلاء نسبة كبرى منهم من المسيحيين، بينهم قرابة مليون كاثوليكي، يتمتعون بحرية عبادة نسبيّة، وبحرّية اجتماعيّة في سياق مجتمع المال والاستهلاك، شرط الابتعاد عن أي نشاط فكري، أو ديني، أو سياسي. لا نتحدّث عن الإمارات حصريّاً، بل عن جارتها وحليفتها السعودية، معقل الفكر التكفيري وعدم الاعتراف بالآخر، وتحريم التفكير والنقد والاختلاف. لقد أدان الحبر الأعظم «استعمال اسم الله لتبرير الكراهية»، كما أدان بأسلوبه ومفرداته طبعاً، جريمة الحرب العظمى التي ارتكبها الحليفان بحق الشعب اليمني. لكن بعد ماذا؟ بعد أربعة أعوام من الإجرام المتواصل (بمباركة الغرب ودعمه)، جنّد خلالها أطفال الدارفور، وقُصفت خلالها المدارس والمستشفيات والأعراس ومواكب الأطفال، وخلفت آلافاً مؤلفة من القتلى، ووجد 16 مليون يمني ويمنية أنفسهم محاصرين بالكوليرا، مهددين بالمجاعة.
هنا يجوز لنا أن نسأل: لماذا اختار البابا فرنسيس الإمارات؟ وكيف وقّت زيارته؟ ألا تغطي زيارة قداسته على واقع مظلم، وتساهم في تمويهه وتجميله، وتغسل خطايا المسؤولين عنه؟ أم تراها تساهم في خلق صدمة إيجابية تؤدّي، كما سمعنا طوال الأيام الثلاثة، إلى «نشر ثقافة السلام واحترام الغير، بدلاً من ثقافة الكراهية والظلم والعنف»؟ ونسأل: ما مناسبة «حوار الأديان» الآن؟ وهل يقوم هذا الحوار في غياب أنظمة سياسية تحمي حقوق المواطنة والحق في الاختلاف وتساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات؟ من يضمن أن الهدف ليس فتح شرخ إضافي تتسلل منه إسرائيل (مع التشديد على التمييز بين الديانة اليهودية والعقيدة الصهيونية) عبر هذه الأنظمة المتخاذلة والخائنة؟ هل يكفي العمال الآسيويين (ومنهم أكثريّة المسيحيين في الإمارات)، بناء الكنائس على أهميّتها، وحضور 130 ألفاً منهم الذبيحة الإلهيّة التي أحياها الحبر الأعظم في ملعب مدينة زايد في أبوظبي، أم يفضلون الحصول على الحد الأدنى من حقوقهم في العيش الكريم والسكن اللائق، ولمّ شمل عائلاتهم، والعمل النقابي للدفاع عن حقوقهم؟ أليست تلك القيم التي تدافع عنها الأديان السماويّة؟ ما الجدوى الفعلية من وثيقة «الأخوة الإنسانيّة» التي وقّعها قداسته مع شيخ الأزهر أحمد الطيب، ممثل نظام السيسي أكثر منه المؤسسة المرجعية الأزهريّة الشريفة؟ هل سيعيش أقباط مصر بأمان بعد اليوم، ويتحررون من الخوف من ذبحهم وتفجير كنائسهم على يد أقليّة معتوهة تشرّبت عقيدة القتل، تحديداً من هنا، من معين الوهابية؟ وأخيراً، هل معاناة المسيحيين العرب تختلف عن معاناة أخوتهم في الوطن والعروبة؟ هل تحل مشكلتهم بمعزل عن شعوبهم ومجتمعاتهم؟ كيف ينعمون وحدهم بالعدالة والحريّة، إذا كان سائر أبناء الشعب ينوؤون تحت نير الظلم والجهل والفقر والأنظمة الاستبداديّة؟
من الطبيعي أن يكون قداسته مثالياً، ويبشّر بالخير في أربع رياح العالم. لكن مدخله إلى «الحوار الحضاري»، إلى «العدالة والحرية والسلام» في العالم العربي - الإسلامي، لا بد أنّه في مكان آخر. أما كل الكلام الجميل الذي سمعناه من المستبدين وشهود الزور، فيذكّرنا بآية من الكتاب المقدّس، نقلها القديس متّى الإنجيلي البشير عن يسوع الناصري الذي قال عن الكتبة والفرّيسيين: «اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم، لأنهم يقولون ما لا يفعلون».