أنهت إسرائيل عملية انتقال منصب رئيس أركان الجيش أمس، من المغادر غادي آيزنكوت إلى الوافد أفيف كوخافي. انتقال تميّز بطابع احتفالي مبالغ فيه، حتى في المعايير الإسرائيلية، وهو أمر له أكثر من دلالة، وفي المقدمة حاجة تل أبيب إلى تضخيم «إنجازات» تأمل أن تخدم ردعها مقابل أعدائها. لكن، في حال تجاوز الاحتفال ودلالاته، يمكن التأكيد أن كوخافي ورث عن سلفه بيئة إقليمية مشبعة بالتهديدات والتحديات، بدءاً من إيران، مروراً بالعراق وسوريا، وصولاً إلى لبنان وفلسطين. تحديات شهدت تطورات نوعية في المرحلة الأخيرة من شأنها تعقيد مهمته وإحاطة سنوات منصبه المقبلة باللايقين.بالطبع، مسيرة رئيس الأركان الجديد العسكرية وتنقله في أهم المناصب حساسية، أي من العمليات الخاصة إلى قيادة المنطقة الشمالية فالاستخبارات العسكرية، وصولاً إلى نائب رئيس الأركان، تتيح له «حكمة مطلوبة» في هذه المرحلة، قد يكون استحصل عليها خلال توليه هذه المناصب، وتحديداً ما يتعلق بالساحتين اللبنانية والسورية، حيث إمكانات التصعيد عالية جداً إن أخطأت إسرائيل التقدير وأقدمت على ما امتنعت عنه حتى الآن. وكما ورد، البيئة الإقليمية مشبعة بالتحديات، والحديث هنا ليس عن مخاطر محتملة، بل فعلية وتتصف بمسار تصاعدي، فيما تحاول إسرائيل أن تكبحها عبر الجهود الدبلوماسية والعسكرية والأمنية.
في الجانب الإيراني من التهديدات والتحديات، وإن كانت معظم التهديدات مرتبطة بطهران، كان التهديد النووي ــ ولا يزال ــ يحتل صدارة اهتمام إسرائيل ويستهلك جلّ انشغالها الأمني والسياسي. ارتفع منسوب هذا التهديد مجدداً مع إعادة فرض الأميركيين عقوبات على الجمهورية الإسلامية في أعقاب انسحابهم من الاتفاق النووي، وهو ما يعيد التهديد إلى رأس سلم الأولويات الإسرائيلية، خاصة أن أحد الخيارات المطروحة إيرانياً إعادة دورة تخصيب اليورانيوم إلى مستويات مقلقة لتل أبيب، ما يرجع الأزمة إلى ما كانت عليه. المعطى الأخير الوارد من طهران حول تحريك ملف التخصيب يحضر في إسرائيل قلقاً ويدفعها إلى تتبعه مع شركائها لأنه مفتوح على أكثر من احتمال مهما كانت معقوليته الحالية، متدنية أو مرتفعة.
في السياق الإيراني أيضاً، سيواجه كوخافي وإسرائيل بمؤسساتها السياسية والأمنية ملف القدرة الصاروخية التي قطعت أشواطاً في التطوير والتحديث وتكييف الإنجازات بناءً على الاحتياجات الأمنية المختلفة في إيران نفسها أو لدى حلفائها. هذا التحدي وردت تأكيدات حوله وحول موقعه لدى صناع القرار في تل أبيب خلال مراسم تسلّم الرجل مهماته أمس، على لسان رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذي شدد على خطورة البرنامج الصاروخي الإيراني، ووصوله إلى حد أن تستخدم طهران برنامجها الفضائي الناشئ غطاءً لتطوير الصواريخ البالستية العابرة للقارات.
ورث كوخافي عن سلفه بيئة إقليمية مشبعة بالتهديدات والتحديات


أما في الساحة العراقية، فيرث كوخافي تحدياً مبنياً على مدخلي تهديد. ففي المطلع، تتابع إسرائيل ما يمكن إنجازه في هذه الساحة لجهة ما تسميه «كبح النفوذ الإيراني» الذي ترمز به إلى حضور ومكانة قوى عراقية معادية لها، وفي المقدمة «الحشد الشعبي»، مع معاينة وتتبع إلى أين سيصل هذا الحضور والعداء. ويتعلق المدخل الثاني بالقلق المتزايد لديها، والمعبر عنه في مواقف مسؤوليها وكتابات إعلامها، أن يتحول العراق وتحديداً غربه، إلى منصة إضافية لنصب منظومات صاروخية تطاول أيضاً العمق الإسرائيلي.
من جهة أخرى، وإن كان تحدي الداخل الفلسطيني أكثر ضجيجاً والتصاقاً ويحمل في طياته عوامل انفجار متواصلة، فإن رئيس الأركان الجديد سيواصل كما يبدو تنفيذ ما أُملي على آيزنكوت تنفيذه، وهو احتواء التهديد والحد من إمكاناته، والتفرغ للتهديد الشمالي، خاصة مع استئناف الاحتلال الاعتداءات في سوريا والتهديد بالمزيد منها.
في الأيام الماضية، تباهى رئيس الأركان السابق، خلال مقابلاته الإعلامية التي فاقت التوقعات من حيث العدد وتجاوزت إسرائيل إلى أوروبا وأميركا، تباهى ومعه نتنياهو بإنجازات إسرائيل في سوريا، لكنهما أغفلا فشل مخططاتهم الأصلية باستبدال النظام في دمشق بآخر حليف، وأغفلا أيضاً الفشل في إسقاط لبنان تبعاً لإسقاط سوريا، وكذلك الإخفاق في الرهان على استنزاف حزب الله وإضعافه في سوريا... وغيرها.
مع ذلك، تبقى الساحة اللبنانية الأكثر تحدياً لكوخافي وقيادة الأركان الجديدة، خاصة أنها محملة بالتهديدات مع واقع وإمكان تعاظمها، ووراثة المعضلة كما هي مع تناميها: العمل ضد التهديد مشكلة وذو أثمان وتكلفة هائلة، والامتناع عن التهديد ومواجهة تعاظمه أيضاً مشكلة ويحمل أثماناً هائلة!