توقفت مساعي القاهرة لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية. السبب الرئيسي كان الخلاف حول شخصية القائد العام للجيش. يصرّ معسكر شرق البلاد على تزعّم المشير خليفة حفتر، ورفض أن يكون مدنيّ قائدها، إلاّ في حال انتخاب رئيس للبلاد، فيما يتشبث الفاعلون في غرب البلاد بأن تكون الكلمة العليا لشخصية مدنية. عكس هذا التطور تناقضاً بين الجمود والتوترات العسكرية في مناطق التماس، وسط البلاد وجنوبها من جهة، والتقدم النسبي المحرز على الجبهة السياسية لناحية إقرار قانون الاستفتاء على الدستور، وتمريره إلى هيئة الانتخابات، والعمل على عقد «ملتقى وطني»، برعاية الأمم المتحدة، في الأشهر المقبلة، تليه انتخابات عامة، من جهة أخرى. ولتجاوز ذلك، يجري الآن العمل على خطة ثانية، يقع بمقتضاها خلق حالة وحدة أمنية في مجمل البلاد، من خلال توحيد قواعد البيانات، ووضع آلية تنسيق بين وزارتي الداخلية، التابعتين للحكومة المؤقتة شرق البلاد، وحكومة «الوفاق» في غربها. دوافع هذه الخطوة كثيرة، لكن أهمها يرتبط بالإرهاب، والقضايا الجنائية، والجوازات.بناءً على ذلك، وجّه وزير الداخلية الجديد في «الوفاق»، فتحي باشاغا، قبل أيام، مدير أمن طرابلس، العميد سالم قريمدة، للذهاب إلى بنغازي ولقاء مدير أمنها العقيد عادل عبد العزيز، وعدد من قياداتها الأمنية. علاوة على ذلك، يسعى رئيس «المؤسسة الوطنية للنفط»، التابعة لـ«الوفاق»، مصطفى صنع الله، إلى إيجاد حل لأمن المؤسسات الطاقية التي تتعرض لانتهاكات من ميليشيات، بعضها يخضع لإمرة خليفة حفتر.
الباحث في الشؤون الليبية، جلال حرشاوي، يرى في حديث إلى «الأخبار»، أن لشخصية وزير الداخلية باشاغا، دوراً في خلق هذا التقارب، فـ«منذ قدومه، بذل جهوداً للتنسيق مع نظرائه في شرق ليبيا، وحتى قبل ذلك، أظهر ميلاً نحو التصالح». ويرى حرشاوي أنه «من هذا المنظور، يعد الإعلان الأخير عن (نية) توحيد الأمن إشارة إيجابية»، لكنه يستدرك بالقول، إن الإعلان «لا يعني أن باشاغا يحظى بقبول حفتر أو جيشه. وحتى داخل طرابلس، لا يزال من غير الواضح إن كانت الميليشيات ستذعن لسياسته العامة».
محاربة الإرهاب من أهم دوافع خلق حالة وحدة أمنية بين الشرق والغرب


يقرأ الباحث هذا التطور في سياق المشهد العام، ليخلص إلى أن «العداوة ما تزال قائمة، إذ ما تزال المطامح السياسية لبعض الفاعلين حادة، وهؤلاء يفكرون وفق منطق من يفوز أخيراً، وليس بالضرورة وفق منطق جهود بناء الدولة». مرجحاً رؤية «تنافس حامٍ هذا العام، سيفضي إلى بروز شخصية فائزة واحدة». رغم كل هذه العوامل المحلية، توجد أيضاً عوامل خارجية، تقودها الدول التي قادت تدخل «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) لإسقاط نظام معمّر القذافي عام 2011، وهي أوروبية بالأساس، بالإضافة إلى قطر والإمارات وتركيا ومصر بدرجات متفاوتة. من ناحية، التقى فتحي باشاغا، أمس، مع نائبة المبعوث الأممي للشؤون السياسية، ستيفاني ويليامز، وناقشا «دعم المجتمع الدولي لتنفيذ الترتيبات الأمنية في طرابلس الكبرى، والرؤية الجديدة لوزارة الداخلية». ومن ناحية ثانية، التقى بالقائم بأعمال السفارة الإيطالية، وقبله بيوم، مع القائم بأعمال السفارة البريطانية، وتركز اللقاءان حول موضوع الأمن والتعاون.
في مقابل الأدوار الغربية، تبدو تدخلات دول المنطقة أكثر غموضاً وانحيازاً. من جهة، تدعم الإمارات ومصر جهود حفتر العسكرية مادياً ولوجستياً، عبر طائرات ومعدات ومشورة. ومن جهة ثانية، تدعم قطر وتركيا الإسلاميين، المتركزين غرب البلاد، وعدداً من الفاعلين الآخرين، من النواحي السياسية والإعلامية. أما الدعم العسكري، فقد تناقص منذ قدوم حكومة «الوفاق الوطني» إلى طرابلس، مطلع عام 2016، رغم حجز شحنات أسلحة قادمة من تركيا في الأسابيع القليلة الماضية.
تزاوج المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، يجعل مسار توحيد المؤسسة الأمنية شديد التعقيد، ويرهنه إلى تبدل المواقف وإرادة السيطرة، ويهدد بأن يلقى نفس مصير جهود توحيد المؤسسة العسكرية. وعلى أهميته، لا يرتبط هذا الملف بالأمن فقط، بل يتجاوزه إلى السياسة ومسار الحل السلمي، إذ يلقي بظلال الشك حول مصير الانتخابات، وقبول الفرقاء بنتائجها، في ظل تعدد المرجعيات الأمنية.