لا يذكر السوريون من «مكافحة الفساد» سوى حدثين اثنين، الأول تمثّل في تأسيس لجنة للتحقيق في الكسب غير المشروع في بداية الثمانينيات، سرعان ما وُئدت في مهدها. والثاني كان مع إحالة أربعة وزراء من حكومة الدكتور عبد الرؤوف الكسم إلى القضاء بعد منتصف الثمانينيات، ومن ثم إقالة حكومة المهندس محمود الزعبي في عام 2000، وإحالة نائبه الاقتصادي ووزير نقله إلى محكمة الأمن الاقتصادي على خلفية اتهامات بالفساد.لا تبدو مهمة أي حكومة سورية في مواجهة ظاهرة الفساد سهلة لسببين: الأول استشراء الظاهرة بفعل ظروف الحرب، وتحوّلها إلى ما يشبه أسلوب حياة. أما الثاني فيتمثّل في تورّط مسؤولين ورجال أعمال متنفّذين في أعمال فساد وصفقات مشبوهة، وهذا يطرح تساؤلات عن ماهية «الضربة القاصمة» التي يجب أن يتلقّاها الفساد وحدودها. بحسب ما تعتقد الدكتورة رشا سروب، فإن «الفساد أصبح في المستويات الإدارية الدنيا ظاهرة مقبولة ومبرّرة اجتماعياً، أما الفساد في المستويات الإدارية العليا فأصبح شرطاً للترفيع والتعيين، وهو يدلّ على تشابك ومتانة العلاقة بين كبار المسؤولين وكبار الفاسدين. لذلك فإنه لا يمكن محاربة الفساد بالاكتفاء بإصدار تشريع أو قانون أو تهديد ووعيد، وعليه فقد بات الأمر يتطلّب توافر قرار سياسي وإجراءات فورية على أعلى المستويات لمكافحة الفساد». وتضيف، في حديثها إلى «الأخبار»، أنه «إذا افترضنا توافر القرار والإرادة، فإنه يمكن تحديد بضع نقاط كي تظهر نتائج مكافحة الفساد بوضوح، وهذه النقاط هي: رفع أجور موظفي القطاع العام إلى مستوى يضمن حياة كريمة لهم ولعائلاتهم، إشراك المواطنين في الكشف أو الإشارة عن مكامن الفساد، تنشيط وتفعيل الإعلام الاستقصائي، محاسبة علنية للفساد والمفسدين، استخدام التكنولوجيا وإطلاق الحكومة الإلكترونية، وتغيير سياسات التعيين والترقية والمحاسبة وفقاً للأداء وليس للولاء».
قبل نحو ثلاثة أشهر ونيف، قرّرت حكومة المهندس عماد خميس خوض غمار مواجهة مباشرة مع الفساد الحكومي، مستندة في ذلك إلى الدعم الذي تلقّته في إدارة ملفّ القروض المصرفية المتعثّرة، واستردادها ما يقرب من 120 مليار ليرة، فضلاً عن إجبارها رجال أعمال معروفين على تسديد مبالغ كبيرة لقاء تسوية مخالفات وتجاوزات اتُهموا بارتكابها، وهو ما أعقبه توجيه الرئيس بشار الأسد، الحكومة التي كان قد طرأ تعديل واسع عليها، بتنفيذ إجراءات محدّدة لمكافحة هذه الظاهرة. بداية المشروع الحكومي تمثّلت في محاولة بناء استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد، ولهذه الغاية طلبت الحكومة من وزاراتها تقديم اقتراحاتها وأفكارها لسبل مكافحة الفساد الحكومي بشكل مؤسساتي بـ«سقف مفتوح»، بعيداً عمّا سُمّي «فورة المحاسبة».

التوصيات الحكومية
تتّفق آراء معظم الوزراء الحاليين على أولوية إصلاح الأجهزة الرقابية، المتمثّلة في الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش والجهاز المركزي للرقابة المالية، ودعمها، مقترحين لذلك إجراءات عديدة، منها إعادة هيكلة الأجهزة الرقابية، وتوحيدها في جهاز رقابي واحد مستقل يسمّى «هيئة مكافحة الفساد»، كما اقترحت وزارة الإعلام، أو «المجلس الأعلى لمكافحة الفساد» وفق رؤية وزارة العدل، التي ربطت «تفعيل وتطوير دور الأجهزة الرقابية بمنحها الاستقلالية وتعزيز مستوى الشفافية في عملها، وذلك باتباع المعايير الدولية في مكافحة الفساد». وهذا أيضاً ما ذهبت إليه وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية باقتراحها المتضمّن «تحديث التشريعات الناظمة لعمل واستقلالية الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد، وتطوير هيكلتها ودمجها ومنحها صلاحيات واسعة، وتوفير الدعم المالي والفني».
لكن، في مقابل المطالبة بدعم الأجهزة الرقابية ومنحها صلاحيات واسعة، هناك من يقترح إجراءات مكمّلة لضمان موضوعية عمل هذه الأجهزة وحياديتها، بالنظر إلى الانحرافات والأخطاء الحاصلة في عمل بعض المفتّشين. فمثلاً، وزارة التربية اقترحت في رؤيتها «إحداث مفتشية خاصة تقوم بمراقبة للأجهزة المختصة»، أما وزارة السياحة فقالت بضرورة «تحصين المفتشين وتأمين كافة مستلزمات عملهم ومنحهم أعلى المزايا»، في حين رأت وزارة الدولة لشؤون المصالحة الوطنية أن من الضروري «التحول لنظام الرقابة المسبقة الوقائية». معارضة فكرة دمج الأجهزة الرقابية بدت واضحة في الورقة المقدّمة من الجهاز المركزي للرقابة المالية، الذي طالب صراحة بتعديل بعض مواد قانونه «لناحية شمول المال العام بالرقابة واستقلالية عمله»، وبوضع «حدود فاصلة بين آلية عمل الجهاز والهيئة المركزية، منعاً لوجود تداخلات أو تشابكات بين عمل المؤسستين».
يرى محلّلون أن المعالجة يجب أن تكون تدريجية وأن تبدأ بإصلاح التعيينات


ولم يكن الإعلام أقلّ أهمية من عمل الأجهزة الرقابية، إذ حرص معظم الوزارات على المطالبة بدور فاعل للإعلام في مكافحة الفساد، وإن كان بعضها يضمر غير ما يعلن بالنظر إلى موقفه من عمل الإعلاميين وحقهم في الحصول على المعلومة وتحليلها ونشرها. تقوم وجهة نظر الوزارات على أن الإعلام السوري بإمكانه الإسهام في ملفين اثنين: الأول توعوي يتمثّل في دعم الجهود الرسمية في مكافحة الفساد، وهنا أبدت وزارة الإعلام حرصها على «إطلاق برامج تلفزيونية وإذاعية وزوايا صحافية وإلكترونية لتسليط الضوء على مكامن الفساد مؤسساتياً ومجتمعياً، ونشر الوعي الشعبي تجاه خطورة الفساد وتأثيراته»، وهذا ما أيّدته ضمناً وزارة النقل من خلال اقتراحها القائل «بتوظيف وسائل الإعلام لتأسيس حالة وعي شامل لخلق بيئة مناهضة للفساد وعدم التستّر على الفاسدين والتصريح عنهم مع الأدلة علناً»، كذلك فعلت وزارة التعليم العالي والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش؛ فالأولى طالبت «بإشراك الإعلام والمجتمع في مكافحة الفساد وإدماج مفاهيم مكافحة الفساد في أدبيات ومناهج التعليم في مراحله المختلفة»، والثانية شددت على أهمية «تفعيل دور وسائل الإعلام في نشر ثقافة الالتزام بالقانون وثقافة النزاهة والكفاءة».
المهمة الثانية المطلوبة من الإعلام تتمثّل في انخراطه المباشر في الكشف عن صفقات الفساد ومكامنه، وهي مهمة تربطها وزارة النفط والثروة المعدنية بالعمل على «تطوير الإعلام الاستقصائي»، وذلك من خلال «الكشف عن قضايا الفساد، وتشجيع التحقيقات الاستقصائية وحماية من يقومون بها» وفق آلية تنفيذية تتضمّن «برامج متخصصة»، والإعلان عن «جائزة سنوية لأفضل التحقيقات الاستقصائية التي أدت إلى الكشف عن ملفات الفساد وتفعيل الحصانة للإعلاميين».
اللافت في أوراق العمل المُقدّمة أن العديد من الوزارات يقرّ بالحاجة إلى توفير المعلومة في الكشف عن الفساد ومحاصرته، إلى درجة المطالبة بسنّ تشريعات لإتاحة المعلومات وحرية تداولها والعمل بمبدأ الشفافية.
وعلى خلاف بعض الوزارات التي قدّمت رؤى عامة وفضفاضة، فإن وزارات أخرى لم تفوّت الفرصة لرفع سقف توصياتها بمحاربة جدية للفساد. فمثلاً، وزارة الداخلية أوصت بالعمل على عشرة إجراءات أساسية تبدأ بإصلاح أجهزة الرقابة والجهاز القضائي، وتنتهي بترشيد الإنفاق وحسن استثمار الإمكانات المادية للدولة. أما وزارة الخارجية والمغتربين فقد أوصت، ومعها وزارات أخرى كالإدارة المحلية والتعليم العالي وغيرها، «بضرورة التصريح عن الأصول المالية لأصحاب المناصب عند تسلّمهم مهامهم وانتهائها»، ومصادرة الممتلكات التي حصلوا عليها من الكسب غير المشروع، أو كما جاء في برنامج عمل وزارة التنمية الإدارية الهادف إلى تعزيز النزاهة والشفافية المؤسساتية والوقاية من الفساد الإداري، حيث أشارت الوزارة إلى ضرورة «إصدار قانون الملاءة المالية (من أين لك هذا)، كشرط من شروط إسناد الوظائف والمناصب»، التي يجب ـــ بحسب الوزارة ـــ أن تُحدَّد مدد زمنية لتسلّمها (معاون وزير، مدير عام، رئيس هيئة...) بشكل واضح، وأن تكون تلك المدد قابلة للتجديد بناءً على تقييم أداء. وهنا، فضّلت وزارة الاتصالات والتقانة أن تحدّد الفترة الزمنية لشغل المناصب القيادية، وتحديداً لمنصب مدير عام، بدورتين لمدة 4 سنوات، ولرئيس وأعضاء مجلس الإدارة بدورة واحدة لمدة 4 سنوات.

الصدمة المطلوبة
بين ما طرحته الوزارات من اقتراحات هدفها، في حال تنفيذها، توفير البيئة المؤسّساتية لملاحقة الفاسدين ومحاسبتهم وتحصين العمل الحكومي، وبين ما ينتظره الرأي العام من إجراءات تشفي غليله حيال استشراء الفساد، لا يبدو أن «تعليق المشانق»، كما طالب وزير سابق، سيتمّ في القريب العاجل، من دون أن يعني ذلك عدم الحاجة إلى ما يقنع المواطن بجدية مشروع مكافحة الفساد، وهذا ما أشارت إليه وزارة العدل صراحة عندما اقترحت العمل على «تعزيز ثقة المجتمع بأن الحكومة جادة وماضية في مكافحة الفساد من خلال البدء بإجراء صدمة إصلاحية...».
التأخّر في مكافحة الفساد خلال الحرب له ما يبرّره كما يذكر الدكتور سنان علي ديب، رئيس جمعية العلوم الاقتصادية في اللاذقية، والذي يشير في تصريح إلى «الأخبار» إلى «وجود قوانين خاصة واستثنائية في أوقات الأزمات، وقد يغلب البعد غير الاقتصادي على القرار، وربما يتمّ غضّ الطرف عن تجاوز القوانين، لأن الهدف الأكبر هو الحفاظ على الوطن، وهذا قد يكون مبرراً لتأخّر وصعوبة مواجهة الفساد. لكن مع وصول البلد إلى مرحلة التعافي، فإن الظروف باتت مواتية للسير بهذا المركب، والقراءة البنيوية الصحيحة تجعلنا نفكر في الإحاطة بالفساد للمعالجة التدريجية، وقد نصل إلى الحالة الصفرية. وبالتالي، فإن منع حصول الفساد هو الهدف الأول عبر التعيينات على أساس الكفاءة والنزاهة بعيداً عن الاعتبارات غير الوطنية، وإن كانت هناك حاجة ملحّة لتوازنات، فَلْيكن الخيار للأكفأ والأكثر نزاهة».