للمرة الثانية في أعقاب مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، صدرت في السعودية أوامر ملكية حملت تغييرات في منظومة الحكم. دفعة جديدة يبدو أن الهدف من ورائها إحداث حركة إضافية في تلك المنظومة، سعياً لامتصاص الغضبة العالمية على الرياض، وإيهام الدوائر الغربية بأن ثمة نقلة حقيقية في طريقة إدارة الأمور واتخاذ القرارات. لكن في المقابل، لا يمكن الجزم بأن حركة المناقلات الأخيرة لن تتبعها تغييرات في السياسات الداخلية والخارجية، على اعتبار أنها تأتي في وقت تشهد فيه ملفات عديدة، على رأسها اليمن، تطورات مغايرة لما استقرّ عليه الحال خلال السنوات القليلة الماضية. ويبرز من بين الأوامر الملكية التي صدرت أمس قرار إعفاء وزير الخارجية عادل الجبير، الذي كان يُنظر إليه على أنه صقر الديبلوماسية السعودية، من منصبه، وتعيينه وزير دولة للشؤون الخارجية وعضواً في مجلس الوزراء. قد يُقرَأ هذا القرار على أنه إضعاف للجبير الذي يُعدّ واحداً من أبرز أعضاء فريق ولي العهد محمد بن سلمان، ووَجْهَ سياسات الأخير والمدافع الشرس عنها. لكن وكالة «بلومبرغ» نقلت عمّن سمّته «مسؤولاً سعودياً بارزاً» قوله إن الجبير سيبقى عملياً «الديبلوماسي الأعلى في المملكة». وفي الاتجاه نفسه، رأى مؤسس «معهد الجزيرة العربية»، علي الشهابي، المقرّب من دوائر الحكم، أن إعفاء الجبير يستهدف «السماح له بالتركيز على دوره كمتحدث رئيسي باسم المملكة، مع إعفائه من عبء الإدارة اليومية للوزارة». وهو ما لمّح إليه وزير الخارجية القديم نفسه بقوله على «تويتر»، «(إنني) أتطلع للعمل مع أخي وزميلي»، وزير الخارجية الجديد.
تُعزّز الاتجاه المتقدم هوية الشخصية التي ستخلف الجبير في منصبه؛ إذ تمّ الإتيان بها من عالم المال والاقتصاد، من دون أن يكون لها أي خبرة ديبلوماسية. يدور الحديث، هنا، حول وزير المالية السابق، إبراهيم العساف، الذي أقيل من منصبه في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، قبل أن يتمّ احتجازه العام الماضي في فندق «ريتز كارلتون» ضمن الأمراء والوزراء والمسؤولين الذين استهدفتهم حملة التطهير «السلمانية». سبق للعساف، الذي يُعتبر واحداً من أقدم وزراء المملكة (22 عاماً في وزارة المالية)، أن تولّى رئاسة مؤسسات مالية عديدة، في مقدمها «صندوق الاستثمارات العامة»، ولذا فهو يُعدّ وجهاً بيروقراطياً متقادماً، وواحداً من كبار أعضاء «الحرس القديم»، علماً بأنه يبلغ من العمر 69 عاماً. يمكن، على ضوء ذلك، اعتبار إعادة تصعيد العساف محاولة متجدّدة لاستعادة توازن البيت السعودي، الذي وجّه إليه ابن سلمان ضربات متلاحقة منذ ما قبل اعتلائه سدّة ولاية العهد. من وجهة نظر الباحث في «مركز الخليج للأبحاث»، محمد يحيى، فإن «تعيين رجال دولة مخضرمين» يشير إلى أن «هناك جهداً لإيجاد توازن بين وتيرة الإصلاحات السريعة ومؤسسات الحكومة».
أزيح وزير الحرس الوطني من منصبه وعُيّن عبد الله بن بندر بدلاً منه


لكن، بعيداً عن الحسابات المتصلة بمحاولات الملك سلمان إعادة تفعيل منظومة التقاليد الحاكمة في المملكة حرصاً على مستقبل نجله ولي العهد، تُطرح تساؤلات حول الانعكاسات المحتملة لإزاحة الجبير من الواجهة على سياسات الرياض في المرحلة المقبلة. حتى الآن، لا تشي المعطيات بأن تبديل منصب وزير الخارجية السابق يغاير نقل ثامر السبهان من موقع السفير السعودي في العراق إلى موقع وزير دولة لشؤون الخليج، إلا أن مواراة وجه مغالٍ في مواقفه إزاء «خصوم» السعودية، في وقت تبدي فيه الأخيرة مرونة في غير ملف إقليمي عقب مقتل خاشقجي، لا يبدو خالياً من دلالات. ومع ذلك، يتعيّن انتظار الأيام المقبلة للوقوف على حقيقة خطوات المملكة.
في ما يتصل ببقية الأوامر الملكية، يظهر مثيراً للاستغراب نقل تركي آل الشيخ، المقرّب من ابن سلمان، من رئاسة «الهيئة العامة للرياضة» حيث أثبت فشلاً ذريعاً، إلى رئاسة «الهيئة العامة للترفيه»، التي تَعاقب على رئاستها ثلاثة أشخاص في غضون سنتين ونصف سنة، وهو ما يطرح تساؤلات حول قدرة هذه الهيئة على تجاوز التحديات التي تواجهها، شأنها شأن وزارة الإعلام التي لم يصمد عواد العواد على رأسها أكثر من سنة وثمانية أشهر، لتتمّ إزاحته أمس ويحلّ محلّه تركي بن عبد الله الشبانة. أما على المستوى الأمني، فقد بدت لافتة إزاحة خالد بن عبد العزيز من منصبه كوزير للحرس الوطني، وتعيين الأمير الشاب عبد الله بن بندر بدلاً منه. استبدال يعكس، بحسب مراقبين، حرص «السلمانيين» على ضمان ولاء هذه المؤسسة، خصوصاً في ظلّ الأزمة التي تمرّ بها السعودية. وهو ما يمكن استشفافه من مسارعة الأصوات المُقرّبة من دوائر الحكم إلى «التطبيل» لتعيين عبد الله بوصفه «حليفاً» لولي العهد. كذلك، شملت القرارات الأمنية تعيين مساعد بن محمد العيبان مستشاراً للأمن الوطني بدلاً من محمد بن صالح الغفيلي، وخالد بن قرار الحربي مديراً للأمن العام خلفاً لسعود بن عبد العزيز هلال، فيما احتفظ وزير الداخلية عبد العزيز بن سعود بن نايف بمنصبه.
في الخلاصة، يمكن القول إن الأوامر الملكية الجديدة لا تخرج عن السياق الذي رسمته الدفعة الأولى الصادرة في 20 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، والذي استُكمل مع إعلان استحداث ثلاث إدارات لتحسين أداء الاستخبارات العامة يوم الجمعة الفائت. سياق يغلب عليه، بحسب محللين، طابع «العلاقات العامة»، بهدف القول إن «الحكومة لا تقوم فقط بإدارة القتل العشوائي لمواطنيها في القنصليات، بل إن هناك إصلاحات جادة على الطريق». لكن ذلك الطابع الدعائي لا ينفي وجود توجّه لإعادة ضبط السياسات الداخلية والخارجية، بما ينسجم مع عملية «التشذيب» و«قصقصة الأجنحة» التي بدأتها واشنطن إزاء حليفتها الرياض، منذ تصاعد الغضب على حادثة القنصلية.



إبراهيم العساف: «لغز» المرور على «الريتز»

(أ ف ب )

بعد تولّيه وزارة المالية لـ20 عاماً امتدّت من 1996 إلى 2016، عايش خلالها ثلاثة ملوك هم فهد وعبد الله وسلمان، كاد إبراهيم العساف يتحوّل إلى «الوزير الأسطورة»، على اعتبار أنه لا يتبدّل بتبدّل الملوك. لكن تاريخ الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، مِن بعد إقالة الرجل في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2016 وتعيينه وزير دولة وعضواً في مجلس الوزراء، حمل علامة فارقة في سيرة الاقتصادي المتخرّج من جامعة كولورادو عام 1981. إذ كان العساف واحداً مِمَّن تم احتجازهم في فندق «ريتز كارلتون» في الرياض بتهمة «التكسّب من مشروع توسعة الحرم المكي، واستغلال منصبه لشراء أراض بعد الاطلاع على خطط توسعة الحرم». إلا أنه سرعان ما عاد إلى عضوية مجلس الوزراء، بعدما تمتّ تبرئته بطريقة لا تزال غير مفهومة، كونه لم يتمّ شمله بالتسويات التي سَحَب بموجبها ولي العهد، محمد بن سلمان، عشرات ملايين الدولارات من منافسيه وخصومه. والجدير ذكره، أيضاً، أن العساف أمضى معظم حياته المهنية داخل مؤسسات الدولة، لا سيما في شركة «أرامكو»، التي كان عضواً في مجلس إدارتها لمدّة طويلة، بينما لم يسبق له أن تولّى أي منصب ديبلوماسي أو سياسي.