وفدان كرديان زارا موسكو مؤخراً. الأول من «مجلس سوريا الديمقراطية» رأسه عبد الكريم عمر، مسؤول هيئة العلاقات الخارجية في «الادارة الذاتية» شمال وشمال شرق سوريا، برفقة المستشار هفال بدران، والآخر من «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) لم يتم الكشف عن أسماء أعضائه. بالتزامن مع هذه الزيارة، عادت كتيبة عسكرية روسية تابعة لمركز التنسيق الروسي مع قوة من الجيش السوري إلى بلدة العريمة المتاخمة لمدينة منبج في ريف حلب الشمالي. وكانت القوات الروسية قد انسحبت من العريمة، التي تتمركز داخلها «قسد»، عند بداية الهجوم التركي على عفرين في كانون الثاني الماضي، بينما احتفظ الجيش السوري بنقاط فيها. وجاء هذا الانسحاب يومها بعد تدهور علاقات روسيا بـ«مجلس سوريا الديمقراطية» مع بداية معركة عفرين واتهام هذا الأخير لها بعقد صفقة مع تركيا على حسابه. تكتسب هذه العودة، وزيارة الوفدين الكرديين لموسكو، معنى خاصاً، بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قواته من سوريا والحديث المتزايد عن احتمال شن الجيش التركي عمليات عسكرية واسعة شرق الفرات. فتمركز قوات روسية في ريف منبج رسالة واضحة لمن يهمه الأمر، توضح معارضة موسكو لأي عملية عسكرية في المنطقة، وهي ترافقت مع تكثيف للاتصالات والمشاورات بينها وبين جميع الأطراف المعنيين بالتطورات في شرق الفرات لايجاد مخرج سياسي للأزمة الناجمة عن الانسحاب الأميركي المفاجئ. التحسّن الكبير الذي طرأ على العلاقات الأميركية ـــ التركية، بعد قرار الانسحاب وخيانة الولايات المتحدة مرة جديدة «لحلفائها» الأكراد، عزّز الاقتناع بامكانية انتهاز تركيا هذه الفرصة للقضاء على المشروع الكردي، على الرغم من المخاطر الناتجة عن مثل هذه العملية، وأوّلها احتمال الصدام مع الجيش السوري وحلفائه. بل ذهب البعض إلى حد اعتبار أن هذا الصدام هو بين الأهداف التي تريد الولايات المتحدة تحقيقها. مصدر مطّلع على خلفيات هذه التطورات، وعلى المشاورات الجارية في موسكو، قال لـ«الأخبار» إن مبادرة روسيا للسعي إلى نزع فتيل الأزمة قد تنسجم مع مصالح اللاعبين الرئيسيين في الشرق السوري، التي لن يخدمها بالضرورة انفجار معركة طاحنة بينهم في السياق الحالي.يرى هذا المصدر أن ما نشهده في العريمة هو رعاية روسية لتجربة تعايش بين الجيش السوري و«قسد» ستسمح، في حال نجاحها، في تحولها الى نموذج قابل للتعميم على منطقة شرق الفرات كحل مرحلي في انتظار ما ستتمخض عنه المفاوضات السياسية بينهما. النجاح أو الفشل يرتبط بمدى احترام الطرفين للتفاهمات الميدانية التي تم التوصل اليها بمساهمة روسيا، لكنه وثيق الصلة أيضاً بدرجة المرونة التي سيبديانها في المفاوضات المذكورة. ولكن، يضيف المصدر، حتى لو طالت المفاوضات وتعقدت أحياناً، مصلحة جميع اللاعبين تقتضي تجنّب المواجهات المفتوحة والمجهولة العواقب وتغليب منطق الحل الانتقالي في انتظار نضوج شروط تسوية دائمة.
مبادرة روسيا قد تنسجم مع مصالح اللاعبين الرئيسيين في الشرق السوري


أول المتضررين من خيار الحرب هم الأكراد. هم يجدون أنفسهم اليوم في حالة يُتم كاملة بعد تخلّي الولايات المتحدة عنهم. جنكيز تشندار، الخبير التركي في الشؤون الكردية، وصف قرار ترامب باعتباره «هدية رأس السنة التي قدمها لأردوغان. مرة أخرى، عند وصولها الى مفترق طرق، انحازت واشنطن إلى تركيا ضد الأكراد. فتركيا حليف أكثر أهمية على المستوى الجيوسياسي ولا يمكن التضحية بها، ولكن هذا الأمر ممكن بالنسبة إلى الأكراد». في حال وقوع الحرب، وفقاً للمصدر، فإن مخاطر التهجير الجماعي والتغيير الديمغرافي تحيق بالأكراد بمعزل عن قدرتهم على القتال والصمود. مآلات الحرب ستكون كارثية بالنسبة اليهم. الخيار الواقعي يفترض تخفيضاً نوعياً لسقف طموحاتهم وتوقعاتهم والموافقة على تسوية سياسية يقبلون بمقتضاها عودة الدولة السورية الى المناطق التي يسيطرون عليها حالياً.
خطاب الرئيس رجب طيب أردوغان الناري حيال «قسد» وتهديداته لها لا يعنيان بالضرورة أنه يفضّل خيار الحرب. أيّ مواجهة عسكرية مع «قسد»، التي أظهرت كفاءة لا يستهان بها واكتسبت خبرات جديدة خلال الحرب السورية، ستكون باهظة الأكلاف بالنسبة إلى الجيش التركي. لدى الأكراد السوريين، إضافة إلى ذلك، اقتناع بأنهم يقاتلون دفاعاً عن البقاء، ما سيضاعف من صعوبة المعركة على الجيش التركي. نقطة أخرى ينبغي عدم إغفالها، وهي أن تركيا مقبلة في آذار 2019 على انتخابات محلية، وسيكون لعمليات عسكرية طويلة الأمد ومرتفعة الأكلاف نتائج سلبية على شعبية أردوغان وحزبه. وفي حال قيام تركيا باجتياح منطقة شرق الفرات، وهو احتمال بات ضعيفاً جداً مع تموضع القوات الروسية في العريمة، هل ستقبل الدولة السورية وحلفاؤها بهذا الاجتياح وما يترتب عليه؟ خطوة كهذه قد تفتح الباب أمام مواجهة لا يمكن التنبّؤ بنتائجها. من المرجّح أن جميع هذه الاعتبارات ستحمل القيادة التركية على دعم المساعي الروسية لحل انتقالي، شرط أن يلبّي المطالب الأمنية التركية. ولا شك في أن التطور المهم في العلاقات الروسية ـــ التركية والصلات الخاصة بين رئيسي البلدين سيسهمان في هذا الأمر.
من البديهي أنّ سوريا تعارض تماماً أي اجتياح تركي لأراضيها وأنها معنية بمنعه وبإيجاد أنجع السبل لمواجهته في حال وقوعه. الظروف اليوم مختلفة عن تلك التي سادت خلال الهجوم على عفرين، وأبرزها المرونة العالية والمرشحة للتزايد عند الطرف الكردي. المنطقة التي يسيطر عليها هذا الطرف واسعة جداً، تساوي حوالى أربع مرات مساحة لبنان، وعدد العاملين في المؤسسات الخاضعة لسلطة «مجلس سوريا الديمقراطي» هو 230000 موظف، بينهم 60000 مقاتل و30000 شرطي، وينفق المجلس 34 مليون دولار شهرياً على هذه المؤسسات. من المرجّح، بنظر المصدر، أن تدفع هذه الوقائع الحكومة التي تثقل كاهلها أعباء الحرب وإعادة الأعمار إلى إبداء قدر من المرونة من جهتها أيضاً، وعدم اشتراط حل جميع المؤسسات الخاضعة لسلطة الأكراد فوراً، والقبول بحل انتقالي تتعايش فيه الدولة السورية العائدة وجيشها معها في انتظار التوصّل إلى صيغة لحل نهائي عبر تفاوض يرعاه الحليف الروسي.
حتى الولايات المتحدة المنسحبة ليس لها مصلحة بحرب في الشرق السوري، بحسب المصدر. هو جازم بأن مواجهة تركية ـــ كردية ستجبر الأكراد على إرسال قواتهم إلى الشمال، ما سيفسح في المجال أمام انفجار معركة أخرى في دير الزور وجنوبها حيث ما زال لـ«داعش» وجود جدي وقدرة على شنّ هجمات وإعادة احتلال مناطق. سيسمح تطور كهذا، في حال حصوله، للدولة السورية وحلفائها بالمبادرة للتصدي له وإعادة بسط سيطرتها على هذه المنطقة الاستراتيجية الغنية بالنفط والمتاخمة للحدود مع العراق. هذه المعطيات، باعتقاد المصدر، ستمنع واشنطن من محاولة عرقلة الجهود الروسية.