للاعتداء الإسرائيلي الأخير على سوريا جملة دلالات وتبعات، تتجاوز الاعتداء نفسه إلى ما يرتبط بمجمل منظومة العلاقات وتفاعلها بين الأطراف الموجودة والمتأثرة بما يجري في سوريا. بالطبع، لا يمكن عزل الاعتداء، بوصفه عملاً ابتدائياً مبادراً إليه إسرائيلياً، عن مقدمات سبقت، وأخرى أعقبت، وتحديداً ما يتعلق بالعلاقة المتأزمة بين تل أبيب وموسكو. لكن في الإجمال من المبكر في ظل تقلص الإشارات ومحدوديتها، رغم وقوع الهجوم، الحديث عن أننا أمام «حلحلة عقد» بين الجانبين، هي مقدمة لاستئناف الهجمات الإسرائيلية، واستمرارها لاحقاً.في ٢٩ تشرين الثاني الماضي، وكذلك في ٩ من الجاري، انشغل الإعلام العبري والعربي، بالحديث عن هجمات إسرائيلية. تبيّن أن الحادثتين غير صحيحتين، وقد تكون جزءاً من اختبار إسرائيلي للدفاعات السورية وجاهزيتها. على ذلك، يُعَدّ الهجوم الأول من نوعه، لأنه شهد بالفعل إطلاق صواريخ من سلاح الجو الإسرائيلي، على هدف على الأقل في سوريا. بالطبع، دائرة التغطية الإعلامية والتقارير عن الهجوم جاءت زائدة ومبالغاً فيها كثيراً، مع سرديات مختلفة خيالية، لكن أصل الهجوم وقع مع محدودية أضراره ودائرة استهدافه.
المعنى، أنها المرة الأولى التي تشنّ فيها إسرائيل غارة جوية على الأراضي السورية بعد إسقاط الطائرة
الروسية في أيلول الماضي. أي أن الهجوم، بمجرد حصوله، يُعَدّ تطوراً جديداً يدفع إلى طرح تساؤلات، من شأن الإجابة عنها، المساعدة في استشراف ما يلي.
قبل أيام عاد وفد عسكري إسرائيلي من موسكو، مؤلف من عشرات الضباط، قيل إن جلساته مع المسؤولين العسكريين الروس خصصت للبحث في الشروط الروسية الجديدة في ما يتعلق بسلامة الوحدات الروسية جراء الأنشطة العسكرية الإسرائيلية في الأجواء السورية. لم يتسرب عن اللقاء ما يفيد في التأكيد أو النفي، أنه جرى التوصل إلى اتفاق، رغم أن التسريبات أشارت إلى وجود تفهّم روسي لمصالح إسرائيل «ولكن»، جرى الإعراب عنها من قبل الروس. السؤال المطروح على طاولة البحث في أعقاب الاعتداء، هو إن كانت روسيا قد تراخت في قيدها المفروض على إسرائيل بالاتفاق، فعمدت تل أبيب إلى ترجمة هذا التراخي اعتداءً في سوريا، أو أنها قررت لعدد من الاعتبارات والدوافع المفهومة، إلى اختبار حدود القيد الروسي فبادرت إلى الاعتداء. بالطبع، الأمور متشعبة ومتداخلة أكثر بكثير مما تبديه الوقائع الظاهرة. والفرضيتان ممكنتان وواردتان، ويصعب في هذه المرحلة تغليب فرضية على أخرى.
في ردّ الفعل الروسي، كما يتبيّن من المواقف الصادرة من موسكو، قدر من الشيء وإشارات إلى نقيضه، وإن جاءت في معظمها في حلة الدفاع عن سوريا. من ناحية، تؤكد وزارة الدفاع الروسية نجاعة الدفاع الجوي السوري في التصدي للصواريخ الإسرائيلية (١٤ من أصل ١٦) فيما تتغاضى عن التطرق للمعتدي، وهو يُعَدّ نوعاً من تليين الحزم عما كان عليه سابقاً. في موقف آخر لاحق، تشير إلى أن «الهجمات الاستفزازية الإسرائيلية» وضعت الطائرات المدنية في دائرة التهديد. والإشارة إلى الاستفزاز رفض للعمل العدائي، وتذكير بإسقاط الطائرة الروسية في أيلول الماضي.
في الخلفية، أحد أخطاء تقدير الموقف الروسي من الهجمات الإسرائيلية هو في ردّها إلى اختيار موسكو بين إسرائيل من جهة وإيران مع أو من دون الدولة السورية من جهة أخرى. ضمن هذه الانطلاقة التحليلية، يأتي الاستنتاج، فيأتي الخطأ في التقدير.
في الواقع تنطلق موسكو في تحديد موقفها من جملة اعتبارات وعوامل، أحدها وأبرزها، التزامها مصلحة الدولة السورية، حيث تشخص مصلحتها هي المرتبطة بها عضوياً، مع الإدراك التام لالتصاق موقف سوريا وإيران، من مجمل التموضع القتالي وما وراءه أيضاً، في سوريا.
على ذلك، تتباين مصلحة روسيا ولا تختلف تماماً، في المدى القصير والمتوسط، المرتبط بمجمله بالحرب والقتال العسكري، وبين المصلحة على المدى الطويل حيث الحل السياسي في مرحلة ما بعد الحرب. في الأولى الالتزام ينطلق من التموضعات والتحالفات العسكرية على الأرض، فيما ترتكز الثانية على الموقف السياسي والترتيبات النهائية. يعني ذلك غلبة الموقف العسكري على السياسي في المرحلة الحالية والمنظورة، مع تقدير بعد المرحلة الأخيرة من الحرب السورية.
هذا الواقع هو ما تشكو منه إسرائيل، رغم كل الصلابة البلاغية المعبّر عنها في التصريحات والمواقف كما ترد على لسان المسؤولين الإسرائيليين. في التسريبات التي وردت أمس، جرى التشديد على أن المؤسسة العسكرية الروسية قررت الابتعاد عن الحياد وأن تتخذ موقفاً وتكون طرفاً في المواجهات التي تتعلق بالتمركز الإيراني في سوريا. بحسب تسريبات أمس («يديعوت أحرونوت»)، الجيش الروسي ووزارة الدفاع لا يصطفان بالضرورة إلى جانب الإيرانيين، لكنهم ملتزمون نظام (الرئيس السوري) بشار الأسد، والطلب من إسرائيل وقف الهجمات على الأراضي السورية.
في الموازاة، تدرك إسرائيل أن تعاظم التهديد في سوريا على أمنها، يستأهل منها المجازفة، وإن أدت إلى استفزاز نسبي للجانب الروسي. هذه السياسات تسير على حبل دقيق جداً، ومن الممكن أن تؤدي إلى الانفجار، وهو ما يفسّر الحذر الذي ابدته إسرائيل خلال اعتدائها. إذ إنها عمدت إلى «اختبار الحد الأدنى» الذي يلبّي أدنى مستوى من «الخطوط الحمر» ومن دون تعريض الروس للخطر، حتى من ناحية الإمكان النظري، في حين أن الهدف ومستواه لا يستتبعان بذاتهما غضباً روسياً.
هل نحن أمام تراخٍ روسي أمام إسرائيل في الساحة السورية بعد تشدد دام أشهراً؟ أم أننا أمام اختبار إسرائيلي للموقف الروسي عبر الميدان؟ الوقائع تشير إلى الفرضيتين، وإن كانت الإشارات إلى «اللاتنسيق»، أثقل قليلاً.
في المقلب الثاني، كان مفهوماً البلاغة العبرية في إعادة التشديد على «الخطوط الحمر» في سوريا، بعد أن كاد الصدأ ينخرها. حديث رئيس حكومة العدو وعدد من وزرائه، وكذلك تعليقات الإعلام، بدا وكأنه كان متلهفاً لتحقيق الاعتداء ليتحدث عنه، إذ إنها أيضاً معركة على الوعي كما هي معركة في الميدان القتالي المباشر، وهو ما يفسّر قوله أمس (نتنياهو) إن قرار سحب القوات العسكرية الأميركية من سوريا لن يغيّر سياساتنا.
بالطبع، تدرك إسرائيل، مع أو من دون القيد الروسي، صعوبة تحقيق النتيجة. فبين الفعل الاعتدائي والجدوى المتوخاة منه لا ارتباط كامل بالضرورة، وإن كان لزاماً عليها، فعل المتاح في سياق محاولة تحقيق مصالحها وأهدافها.
في الموازاة، يشهد للدفاعات الجوية السورية نجاعتها في التصدي، حتى من دون الجاهزية العملانية لمنظومة «اس ٣٠٠» حتى الآن. نجاعة يمكن تلمسها في النتيجة المحدودة التي حققها الاعتداء فعلياً، رغم كل التمادي في المبالغة الإعلامية المقابلة. وهي نجاعة يمكن الاستدلال عليها أيضاً من الإجراءات الاحترازية الوقائية الإسرائيلية غير المسبوقة التي فُعِّلَت وشُدِّد عليها، في سياق الاعتداء. في المحصلة، شنَّت إسرائيل هجمات جوية في سوريا بعد امتناع ومنع لأشهر. قرار استئناف الهجمات محل تأمل في كل ما يتعلق بالموقف الروسي منه. إلى أين يمكن أن تصل الأمور؟ سؤال يحوط إجاباته ضبابية ولا يقين، خاصة أن مواقع الأفرقاء وقدراتهم، بلا استثناءات، باتت مغايرة لما كانت عليه في مرحلة ما قبل أيلول الماضي، تماماً كما هي المصالح والتموضعات و«الإنجازات» في هذه الفترة، الأمر الذي يفتح المجال بقوة، أمام مروحة واسعة من الاحتمالات، يتعذّر تشخيصها من الآن.