«لقد أغلقت اليمن الأبواب على نفسها ألف سنة فلم يختفِ منها الشعر، ولكن المشكلة الحقيقية هي متى يغزوها العلم؟!»، كانت تلك صورة بلد عربي معزول عن العالم وعلمه الحديث كما سجلها نجيب محفوظ في قصته القصيرة «ثلاثة أيام في اليمن» التي نشرت عام ١٩٦٩ ضمن مجموعة «تحت المظلة».«هل ثمة فرصة لأكتب كلمة سريعة؟
أخي العزيز،
كم وددت أن أودّعك قبل الرحيل. أذكرك بالحب والإكبار وأنا على وشك العودة إلى أرض الوطن. ستعود إليه ذات يوم منتصراً راضياً بإذن الله. اهنأ الآن بأنك تحارب في سبيل قضية عادلة، قضية التقدم للإنسان العربي. ومهما تكن العوائق ومهما تكن العواقب، فإنك بذرت في الأرض بذرة من طبيعتها النمو والازدهار».
كانت تلك رسالة الراوي ــــ محفوظ نفسه ــــ إلى جندي يحارب في اليمن.
رغم كل ما هو منسوب إلى الدور المصري في حرب اليمن من أخطاء، فإنه نقل هذا البلد العربي من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة. هناك عشرات الشهادات بأقلام مثقفين يمنيين عن مدى الصدمة التي انتابتهم عند الخروج إلى العالم ومعاينة وسائل حياة عادية لم تكن تخطر لهم على بال. القيمة السياسية لشهادة محفوظ أكبر من الأدبية، فهي ليست من أعماله التي تستوقف النقاد والقراء. المثير أنه نشرها بعد أن وقعت الهزيمة العسكرية عام 1967 ونُسب إلى حرب اليمن ما نسب.
لم يتردد في نشر نصه كما كتبه حينذاك، غير أنه عاد عام ١٩٨٢ عبر إحدى شخصيات رواية «الباقي من الزمن ساعة» للتعريض بحرب اليمن: «أسمعت ما يُقال عن أغنية أم كلثوم أسيبك للزمن! يقال إن الأصل أسيبك لليمن». عبقريته في قدرته على التقاط الدراما من قلب الحياة وتحولاتها السياسية والاجتماعية لا في آرائه السياسية.
من الناحية الاستراتيجية ساعد التدخل العسكري في اليمن على تحرير جنوبه من الاحتلال البريطاني والسيطرة على مضيق باب المندب، حتى بات البحر الأحمر عربياً بالكامل. أثناء «حرب أكتوبر» ١٩٧٣ أغلق المضيق في وجه الملاحة الإسرائيلية. نصبت كمائن سياسية وعسكرية حتى تكون حرب اليمن مستنقعاً للقوات المصرية يصعب الخروج منه. كانت التجربة قاسية بكل معنى عسكري، بالنظر إلى الطبيعة الجغرافية لليمن وحجم التدخلات المباشرة: سعودية وأميركية وإسرائيلية.
مالت حسابات جمال عبد الناصر عندما أطيح الحكم الإمامي عام ١٩٦٢ إلى أنه لا يصح التردد في الوقوف إلى جوار الثورة اليمنية، وإلا فإنه إخلال جسيم بالدور الذي تضطلع به الثورة المصرية في عالمها العربي. بالتوقيت، جاء الحدث اليمني الكبير بعد انفصال الوحدة المصرية ــــ السورية وتراجع حركة القومية العربية. كانت تلك فرصة استراتيجية على البحر الأحمر بالقرب من منابع النفط لرد الضربة بأقوى منها. كان تقديره أن تدخل بعض قوات الصاعقة، وسرب واحد من الطائرات يكفي.
وفق شهادة الأستاذ محمد حسنين هيكل، الحرب اتسعت «لا لأن هذا الطرف العربي، أو ذاك تدخل فيها، وإنما اتسعت حينما تدخلت قوى السيطرة العالمية، وفي مقدمتها إدارة المخابرات المركزية الأميركية، التي جندت للحرب آلافاً من الجنود المرتزقة الأجانب، إنكليزاً وألماناً وفرنسيين وأميركيين. وقصة هؤلاء ذائعة مشهورة، ولكن ذاكرتنا ضعيفة ننسى بسهولة ما هو حق لنا ونبتلع بسهولة دعاوى الآخرين علينا... ننسى أنه في وقت من الأوقات كان هناك أكثر من خمسة عشر ألفاً من الجنود المرتزقة الأجانب في اليمن... وننسى أن لندن ــــ كما حدث في حالة أنجولا ــــ كانت مركز تجنيدهم وتسليحهم وإرسالهم إلى اليمن».
كان أنور السادات يتولى إدارة الجهد السياسي المصري في اليمن، لكنه عندما آلت إليه مقاليد الرئاسة، رعى حملات التشهير، كأنه لم يكن المسؤول الأول عن الملف. صبيحة ٥ حزيران/يونيو تبدّت مشكلة مستعصية مع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية، هي أن الجيش المصري كان موزعاً على جبهتين بينهما آلاف الكيلومترات.
كان استنزاف الجيش المصري في اليمن مقصوداً لأهداف استراتيجية تتعدى الصراع في هذه البقعة الاستراتيجية إلى انتظار لحظة انتقام عبر الحدود الشرقية. أسوأ معالجة ممكنة لحرب اليمن والدور المصري فيها الانتقائية بالأهواء وتصفية الحسابات، فلا نعرف ما الذي جرى حقاً؟
بأي معيار تاريخي، موضوعي ومنصف، فقد كان الدور المصري في اليمن تحررياً وسقط شهداء صنع اليمنيون من أجل تخليدهم نصباً تذكارياً في قلب صنعاء.
عادت القوات المصرية بعد «هزيمة 5 يونيو»، ونجح النظام الجمهوري الوليد في دحر الحصار العسكري الذي فرض على صنعاء لسبعين يوماً بدعم سعودي كامل. هكذا انتهت الحرب الأولى في اليمن وجرت مياه كثيرة تحت الجسور.
قصة اليمن تستحق المراجعة: ما الذي جرى فيه من صراعات على السلطة، وأدوار الجوار الإقليمي، وكيف استحالت أحلامه بوحدة شطريه الشمالي والجنوبي إلى حرب أخرى جرت على أرضه قرب منتصف تسعينيات القرن الماضي؟ كانت تلك حرباً ثانية خلفت جراحاً غائرة في النفوس بقدر ما سقط فيها من آلاف القتلى والجرحى. ثم كانت الحرب الثالثة التي أطلق عليها «عاصفة الحزم» مأساة كاملة بدت مشاهد ضحاياها ومجاعاتها ضغطاً لا يحتمل على الضمير الإنساني، استدعى فتح الملف على أوسع نطاق دولي إعلامي وحقوقي ودبلوماسي.
برعاية أممية، أفضت مفاوضات في العاصمة السويدية ستوكهولم إلى تفاهمات بين الطرفين المباشرين لتبادل الأسرى وأعدادهم بعشرات الآلاف، وهذه خطوة أولية وإنسانية لبناء الثقة المطلوبة في الإجراءات الأصعب التالية. ولم تكن التفاهمات التي جرى التوصل إليها في ستوكهولم بشأن ميناء الحديدة ومطار صنعاء سوى محاولة أخرى لتخفيف وطأة المأساة الإنسانية وبناء قدر آخر من الثقة على الأرض.
السؤال الرئيسي الآن: ما الصورة السياسية التي سوف يستقر عليها اليمن؟ أخطر التحديات وحدة اليمن نفسه. هذه مسألة حياة أو موت. هل يجري تقسيمه بطريقة أو أخرى؟ وإذا استعاد وحدته، فعلى أي أساس ووفق أي صيغة؟ أزمة اليمن الحقيقية أنه لم يتسنّ له أبداً الانتقال من القبيلة إلى الدولة، فإذا ما توزعت الحصص والأنصبة بغير نظر إلى مصلحته وطبيعة مشكلاته، يصعب التعويل على وقف مأساته.
* كاتب وصحافي مصري