القاهرة | قد لا يمر يوم إلا يعلن الإعلام المصري فيه وجود مؤامرة جديدة أو كارثة يخيط حبالها التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين. ويستشعر المتابع لهذه الرواية أننا أمام تنظيم على درجة عالية من التماسك والقدرة على النفاذ وتحريك الخيوط. ترضي هذه الرواية الرغبة المحمومة لدى النظم القومية في إيجاد عدو خارجي يقف بالمرصاد لرغبات الشعوب في التحرر، وتعبّر عن حس مؤامراتي فج وتبسيط مخل يحاول أن يفسر اتجاهات الموقف الدولي وتعقيداته بشأن ما يحدث في مصر من خلال رده إلى مؤامرة إسلاموية مزعومة هدفها النيل من حامي الاستقلال الوطني الذي يعبر عنه نظام الفترة الانتقالية والجيش المصري.
ومن ناحية أخرى، تنفي الرواية الإخوانية وجود مثل هذا التنظيم «الهيراركي»، وتتحدث عن وجود إطار تنظيمي أقرب إلى التنسيق بين فروع جماعة الإخوان في أنحاء العالم في أفضل الحالات. وتصر هذه الرواية على وضع جماعة الإخوان المصرية في خانة الفصيل الوطني المُنبَت الصلة بالخارج، وإن كانت الجماعة لا تنفي رؤيتها لاستعادة الخلافة الإسلامية وتوحيد العالم الإسلامي وقيادة العالم تحت شعار «أستاذية العالم» المنسوب إلى المؤسس الأول حسن البنا.

الجماعة: صراع الوطنية والأممية

لكن البحث في قضية التنظيم بعيداً عن هاتين الروايتين، يتطلب النظر بدايةً في الصراع بين الأطروحتين الأممية والوطنية داخل «الإخوان». صراع يماثل الصراع بين ثنائيات أخرى كالصراع بين السياسي والديني، والمحافظية والإصلاحية. لقد جاءت نشأة الجماعة أممية بامتياز؛ إذ تجمع كافة مصادرها وروايات باحثيها على أن سقوط الخلافة العثمانية 1924، كان السبب الرئيسي لتأسيسها. لقد حدد البنا الهدف من تأسيس الجماعة بالسعي نحو تأسيس الحكومة الإسلامية، فالخلافة الإسلامية، فأستاذية العالم. وأشار إلى أن الأخيرة تعني قيادة المسلمين للعالم الحديث على نحو يستعيد التفوق الإسلامي في القرون الوسطى، من خلال نشر الإسلام وهداية العالم. ومن هنا يمكن القول إن جينات الجماعة تُناغم بين الأطروحتين الوطنية والأممية ولا ترى بينهما أي تنافر أو تضاد.
بقي الخطاب الأممي حبيس الجماعة في سنواتها الأولى، ثم سرعان ما جعل انخراطها في الحركة السياسية منذ الثلاثينيات خطابها الوطني يطغى على شقها الآخر، من دون أن يلغيه. لقد أسرع البنا بإقامة صلات بالتنظيمات والجمعيات الإسلامية المشابهة للجماعة في البلدان العربية المحيطة، واستغل كل الصلات الممكنة للتبشير بالفكرة التي لاقت صدى لدى المؤمنين بالجامعة الإسلامية في المشرق العربي وغيره، كما حاول تنظيم الإخوان، الذي انتشر في ما يقارب 11 دولة، فأسس قسم الاتصال بالعالم الإسلامي عام 1944، وتحددت مهمات هذا القسم بنشر الدعوة والعمل على تحرير العالم الإسلامي من نير الاستعمار، وهي مهمة أممية بامتياز.
دعم «الإخوان» حركة ضباط الجيش عام 1952، وكانت الصلات الفكرية والتنظيمية بين التنظيمين الإسلامي والعسكري قد انعقدت منذ سنوات. لقد عبر التنظيمان عن توجهات معادية لليبرالية، والاستعمار الغربي. وفيما حدد «الإخوان» دائرتهم الأممية، تأرجح الضباط بين الوطنية والعروبية والأممية الإسلامية. لقد اعتقد «الإخوان» أن هذه الضبابية لدى الضباط كفيلة بمنحهم الفرصة لفرض توجههم، وانقلب تحالفهم مع الضباط إلى صراع. اتجه نظام الثورة الوليد بقيادة جمال عبد الناصر لحسم توجهه بتبني خطاب قومي عروبي اشتراكي معادٍ للاستعمار، واستطاع بعد تصفية الجماعة استيعاب عناصر إسلامية في خطابه القومي العلماني.
أدّى دخول الجماعة العمل العام، بعد سنوات المحنة الناصرية، عقب التغيرات التي أجراها نظام أنور السادات منتصف السبعينيات، إلى تبنيها خطاب مصالحة مع الدولة. يقول الباحث المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية حسام تمام إن «الإخوان بدوا وريثاً غير شرعي لتيار الدولتية المصرية بكل ما يحمله من إرث قومي وإسلامي ممتد. ففي الوقت الذي بدأ فيه نظام السادات بالتخلي عن الالتزامات القومية لمصر بإبرامه الصلح مع إسرائيل، أخذت الجماعة على عاتقها تبني القضايا العربية، معبرة بذلك عن تيار أيديولوجي وشعبي عريض يرتكز على التوجهات الناصرية، ودافع الإخوان عن قضية فلسطين بخطاب إسلامي لا يتنافر مع الخطاب القومي».
لم يكن يعني هذا التخلي عن خطاب الأستاذية والسعي نحو الخلافة، لقد أدرك الإخوان مدى قوة هذه الأفكار في حشد قواعد الجماعة وتجنيدها. وأنتجت هذه الحالة ازدواجية مستمرة لدى الجماعة، فقد صدَّرت إلى المجال السياسي العام خطاباً يصر على كون الجماعة فصيلاً وطنياً مصرياً بامتياز، فيما جرى تصدير خطاب ساعٍ إلى الخلافة والأستاذية إلى قواعد الجماعة، حرصاً على تماسكها وتوسيع قواعدها.
وتجمع المصادر على أن الضربات القاصمة التي وجهها نظام عبد الناصر إلى جماعة الإخوان عامي 1954 و1965، أضعفت الجماعة داخل مصر، غير أنها أسهمت في انتشارها خارجها. وارتبط انتشار الإخوان في أوروبا بشخصية سعيد رمضان، السكرتير الشخصي للبنا وزوج ابنته، الذي انتقل إلى سويسرا عام 1958 وأسس فيها المركز الإسلامي بجنيف 1961. وقبله، أسس الجماعة الإسلامية بألمانيا 1958، وقاد تأسيس مسجد ميونخ، أهم المراكز الإسلامية في أوروبا لعقود.
لقد كان للمال السعودي اليد الطولى في تأسيس هذه المراكز، فأوقعها تحت هيمنة سعودية، وهو ما شهده اجتماع المنظمات الإسلامية الأوروبية في لندن عام 1973، الذي تمخض عنه تأسيس المركز الإسلامي الأوروبي. غير أن هذه الهيمنة تعرضت للتراجع، مع اتجاه الجماعة المصرية الأم نحو إقامة صلات بفروعها الأوروبية، واستخدام المال الإخواني الخاص لهذا الغرض، وبدأ المشروع الإخواني المستقل باجتماع لوجانو 1977 الذي تمخض عنه تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي الذي انتقل إلى الولايات المتحدة في ما بعد، وهدف إلى نشر القيم الإسلامية والفكرة الإخوانية في الغرب.
الجماعة ولعبة الأمم في الإقليم

حمل مصطفى مشهور، مرشد الجماعة والقيادي السابق في مسجد ميونخ، فكرة تأسيس التنظيم الدولي للإخوان، ووضع وثيقة تأسيسية لهذا التنظيم عام 1982، وبدأ التفكير جدياً في تأسيس مركز يحقق هيمنة مصرية على المنظمات الإسلامية في أوروبا. يحدد الفصل السادس من اللائحة العالمية للجماعة «تنظيم العلاقة بين القيادة العامة وقياداته المحلية. ويؤكد باحثون أن ما يسمى التنظيم الدولي هو أقرب إلى إطار للتنسيق العالمي بين قيادات الإخوان وفروعها عبر العالم. يدفعنا هذا إلى تأكيد أننا أمام حركة سياسية عالمية تقوم على مبادئ فكرية في فهمها للإسلام السياسي، ولا يعني هذا أننا نقبل بالرواية الإخوانية التي تتحدث عن جماعة وطنية خالصة تضع مصر أوي أي قطر في القلب من عملها. إن بنية الطائفة غالبة على تنظيم الجماعة الأم في مصر، وهي بنية ما قبل حداثية مراوغة في قبولها بالدولة الحداثية وفكرة الوطن الحديثة، وكما أشرنا من قبل فإن الخطاب الإخواني هو خطاب اتسم بالازدواجية في تقديمه للأطروحتين الوطنية والأممية كلّ على حسب الجمهور الذي تتوجه إليه الجماعة بالرسالة.
الأهم من هذا أن الجماعة منذ نشأتها قد جعلت من نفسها رقماً في «لعبة الأمم»، أي استراتيجيات الدول الساعية إلى الهيمنة على الشرق الأوسط، وما زالت السرية تحيط بكثير من نشاطها ونشاط قيادتها بالخارج. ولعل المثل الأبرز لهذا قضية السيد يوسف ندا ممثل الجماعة في الخارج لعقود، الذي عرف بوزير خارجية الإخوان، وقد أشار في شهادته المعنونة «من داخل الإخوان المسلمين» إلى الدور الدولي الذي قام به في تنسيق أنشطة الجماعة وتمويلها في أوقات أزماتها. يشير جيلبير الأشهر، في كتابه «الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية»، إلى تاريخ تقلب الإخوان بين السعودية وقطر بعد حرب الخليج الأولى وإلى سعي الإمارة الصغيرة الطموح إلى تنشيط سياساتها الخارجية من خلال الشبكة الإخوانية الممتدة عبر العالم العربي وأوروبا، وأدائها دور الوساطة بين واشنطن والجماعة. وهو مسعى وجود رغبة لدى الطرفين وواجهته صعوبات على الأرض، ولكن كان من مصلحة واشنطن أن تحارب التطرف الذي تمثله شبكة القاعدة بالوسطية التي يمثلها الإخوان وترعاها قطر. ووجدت تركيا الصاعدة عبر حزب العدالة والتنمية في الشبكة الإخوانية التي روجت لنموذج الإسلام الديموقراطي جسراً للعبور إلى إمبراطوريتها القديمة. لقد جمع تحالف قوامه المصالح الاقتصادية والطموح السياسي والتوافق الأيديولوجي.




البحث عن وكلاء جدد

أثار السقوط السريع لحلفاء واشنطن الأساسيين في المنطقة إثر «الربيع العربي» رغبتها في البحث عن وكلاء جدد لتطبيق سياساتها. ونجح الإخوان عبر رعاتهم من قطريين وأتراك في أن يكونوا هذا البديل المحتمل. لكن سقوطهم كشف عن نفوذ إعلامي وسياسي في الدوائر الغربية والإقليمية، حيث التقت الآلة الإعلامية الشرسة الاجتماعات التي عقدت نصرةً للإخوان المصريين وجعلت منها تنظيماً دولياً أكملت به صورة الإخوان كـ«عدو للشعب» ونظامه القائم على خطاب مروج لفكرة العمالة والخارج المتربص.
ويرتبط استمرار صورة التنظيم الدولي في الإعلام المصري باستمرار المواجهة الجارية بين الإخوان وجهاز الدولة القديمة. وسيظل التنظيم الدولي، بوجوده الحقيقي وذلك التمثيلي الذي يعبّر عنه الإعلام المصري جزءاً من سياسات شيطنة العدو الداخلي ومبرراً لسحقه.