تنطوي سلسلة العمليات الناجحة التي نفذها المقاومون الفلسطينيون في الضفة المحتلة على أكثر من رسالة وفي أكثر من اتجاه. هي تؤكد مرة أخرى إخفاق محاولات طمس القضية كافة، أو إخفاء جذوتها وحضورها على الساحتين الإقليمية والدولية. ومع أن هذه العمليات تأتي امتداداً لنهج المقاومة الذي يسلكه الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، فإن ساحتها وتوقيتها وسياقها تؤشر جميعاً إلى المستقبل المشرق للمقاومة على أرض فلسطين.في سياق حركة الصراع، جسَّدت هذه العمليات إرادة الشعب الفلسطيني في مواصلة نهج المقاومة ضد العدو. وتنبع خصوصيتها أيضاً من كونها تأتي في مواجهة الضغوط والقيود التي تسعى بها أطراف إقليمية ودولية، وحتى محلية، إلى تطويق الشعب الفلسطيني، بهدف ثنيه عن هذا الخيار، وتجريده من عناصر القوة التي تمكنه من تحرير أرضه والدفاع عن نفسه، ومواجهة المخططات الهادفة إلى تصفية القضية. لذلك، ليست مبالغة القول إن العدو ينظر إليها من زاوية أن دخول المقاومة في الضفة بهذا الزخم، لو تواصل، فسوف يؤدي إلى إرباك المعادلات الداخلية الإسرائيلية، والكثير من المعادلات الإقليمية التي ما زالت تخضع للتجاذب في سياق الصراع.
ومع أن جهات عدة في الكيان حاولت أن تضع العمليات في سياق رد الفعل الظرفي، أو من قبيل التقليد فقط، فإن الوتيرة المتسلسلة للعمليات، وما سبقها من تحذيرات في الجيش و«الشاباك» خلال الأشهر الماضية، يؤكد كونها جزءاً وامتداداً لحركة المقاومة المتواصلة على أرض فلسطين، وأنها تتويج لما سبقها من محاولات وعمليات، وتمهيد لما يليها.
تؤكد حقيقة كون الضفة ساحة هذه العمليات، بكل ما تنطوي عليه من دلالات سياسية وأمنية وجغرافية، أن كل فلسطين هي ساحة للمقاومة، وتتكامل بذلك مع قطاع غزة الذي جسَّد إرادة الصمود والمقاومة بأعلى صورها. من هذه الزاوية، تبدد العمليات رهانات الكيان على إمكانية الاستفراد بغزة، كما تسقط رهان القيادتين السياسية والأمنية في تل أبيب على أن يؤدي الهدوء على هذه الجبهة، الذي ساهمت في بلورته مجموعة من العوامل الإقليمية والردعية، إلى تعميم الهدوء في كل فلسطين. ويكشف كونها أتت بعد الانتصارات التي حققتها المقاومة في غزة، عن أن مسار المقاومة في فلسطين في مسار تصاعدي. في المقابل، ينبغي القول إن هذه الأبعاد والمفاعيل المقدرة لهذه السلسلة الناجحة من العمليات مرهونة باستمرارها بهذا المستوى من الزخم.
في السياق الداخلي الإسرائيلي، أتت عمليات المقاومة في الضفة في توقيت سياسي حساس بالنسبة إلى رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو. فبعدما أحرج القطاع قيادة العدو خلال الجولة الأخيرة من الصواريخ، ما أدى إلى استقالة وزير الأمن أفيغدور ليبرمان، حاول نتنياهو أن يحرف الأنظار نحو الشمال، لتبرير الهدوء إزاء الساحة الفلسطينية بالتفرغ لمواجهة تهديد الجبهة الشمالية. لكن الضربات التي تلقاها من المقاومة في الضفة أربكت حساباته وحشرته أمام خصومه السياسيين في الحكومة وخارجها. إذ تشكل هذه الضربات ضربة مباشرة إلى نتنياهو ليس لكونه رئيساً للحكومة فقط، بل وزيراً للأمن، أي المسؤول مباشرة عن مواجهة هذه التحديات.
في السياق نفسه، بدأت المزايدات السياسية التي تحوّل هذه الضربات إلى مادة سجال وتنافس بين القوى السياسية. على هذه الخلفية، يأتي تهديد «الاتحاد القومي» الشريك في الحكومة، عبر كتلة «البيت اليهودي»، بالانسحاب، وهو ما سيؤدي إلى إسقاط الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، وذلك في حال لم يجتمع «المجلس الوزاري المصغر» (الكابينت)، ويتخذ إجراءات محددة ضد الفلسطينيين. في المقابل، أتى موقف وزير التعليم نفتالي بينت، الذي رأى أن هذه العمليات «نتيجة أن الفلسطينيين لم يعودوا يخافوا منا»، ليشكل إقراراً مباشراً بتراجع قوة الردع الإسرائيلية. مع هذا، حاول نتنياهو احتواء غضب المستوطنين واليمين المتطرف. ولقطع الطريق على مزايدات منافسيه، بادر عبر بيان صادر عن مكتبه إلى إصدار قرار بـ«تنظيم وضع آلاف المنازل في مستوطنات الضفة التي لم يُنظّم وضعها القانوني حتى الآن، وبعضها منذ عشرات السنين».
على المستوى التكتيكي، مثّل نجاح سلسلة العمليات تجسيداً لإبداع المقاومة الفلسطينية بنجاحها في تجاوز الإجراءات المشددة، وكذلك التنسيق الأمني. وهو أمر يتوقع أن ينعكس على الأجهزة الإسرائيلية التي قد ترى في نجاح هذه العمليات مؤشراً على إمكانية نجاح عمليات لاحقة. وفي محاولة لاحتواء هذه المفاعيل، تقرر أيضاً، على المستوى الأمني، كما صدر عن مكتب نتنياهو بعض المقررات المتصلة، إذ أشار إلى «تسريع عملية هدم منازل منفذي العمليات خلال 48 ساعة، وزيادة الاعتقالات الإدارية لناشطي حماس في الضفة، وتعزيز قوات الجيش في المناطق، وتعزيز حماية محاور الطرقات ونصب حواجز، وعزل البيرة».
في الدائرة الأوسع، تأتي عمليات المقاومة في سياق مواجهة مخططات تصفية القضية الفلسطينية، الموسومة بعنوان «صفقة القرن»، ورداً على خطوات التطبيع الخليجي التي تستهدف تطويع الفلسطينيين وبث روح اليأس فيهم بهدف إحباطهم ودفعهم إلى الخضوع للواقع. كما تأتي العمليات لتؤكد استمرار المقاومة التي ستفرض قضية فلسطين على الساحتين الإقليمية والدولية، في مواجهة كل محاولات طمسها وإخمادها.