تعد عملية مستوطنة «عوفرا»، شمال الضفة المحتلة، واحدة من سلسلة عمليات ناجحة نفذها الفلسطينيون في الأشهر القليلة الماضية ضد العدو الإسرائيلي، مع سمات مشابهة لجهة عجز العدو عن ضبطها مسبقاً، ومواجهة منفذيها لاحقاً. هي بذاتها عملية مؤلمة جداً للاحتلال ولصورة اقتداره الاستخباري، الأمر الذي يفسر اندفاع إسرائيل في اليومين الماضيين إلى «ترميم» صورة اقتدارها عبر عمليات انتقام نفذتها في الضفة، والنبرة الحادة التي واكبت هذا الانتقام، على لسان المسؤولين الإسرائيليين.قبل أسابيع، وصف رئيس «جهاز الأمن العام الإسرائيلي» (الشاباك)، نداف أرغمان، الوضع في الضفة بأنه «مخادع ومعقد ومغاير تماماً لما يبدو عليه». آنذاك، أراد أرغمان التمهيد لإمكانات كامنة تراها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مرجحة جداً في تنفيذ عمليات غير مألوفة في الضفة ومغايرة لـ«عمليات السكاكين» المحدودة نسبياً، بعد هدوء حققه الاحتلال بمساعدة الأجهزة الأمنية الفلسطينية طوال سنوات. «عوفرا» هي إحدى هذه العمليات التي حذر منها «الشاباك»، مع ترجيح استمرارها في ظل تعقيدات الوضع الفلسطيني، وتجاوز إسرائيل كل الحدود والسقوف، في قمع الفلسطينيين.
وفي دلالات العملية وتبعاتها، يشار إلى الآتي:
ـــ هي عملية مؤلمة بحد ذاتها للاحتلال، وفي الوقت نفسه مؤلمة جداً ومحرجة لشخص رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو والصورة التي عمل على مراكمتها في الأشهر الأخيرة، وبوضوح أكثر في الأسابيع الماضية، بوصفه رجل أمن قادراً على مواجهة التهديدات بكل صورها وتنوعاتها. من شأن العملية ومثيلاتها أن تعيد انتقادات المستوطنين واليمين الإسرائيلي لنتنياهو، بالقدر والمستوى الذي كانا عليه بعد قبوله وقف إطلاق النار الأخير في قطاع غزة، كما بإمكانها أن تؤثر سلباً في جهوده لتظهير صورة اقتداره التي يعمل عليها في الأيام الماضية، جراء «إنجازات الأنفاق» على الحدود اللبنانية.
ـــ في الوقت نفسه، تعد العملية مؤلمة من حيث عدد الإصابات وأسلوب تنفيذها الناري، وهي جزء لا يتجزأ كما يبدو من سلسلة عمليات تغذي بعضها بعضاً، مع سابقة كادت تغيب عن ساحة عمليات الضفة في السنوات الأخيرة، في أن يعقبها ملاحقة واعتقال وقتل منفذيها.
ــــ الواضح من ردود الفعل الإسرائيلية، التي جاءت في معظمها انتقامية، إرادة الموازنة في صورة الفعل والرد عليه، وإن جاء انتقاماً جماعياً، بل مع توجه مقصود في الترقي نحو استهداف السلطة الفلسطينية نفسها ومؤسساتها، وهو مطلب جامع لدى المستوطنين، ويهدف نتنياهو من الانصياع إليه أن يرمم صورته عبر هذه «النقلة» ضد السلطة، والظهور بصورة المتطرف أمام اليمين والمستوطنين.
حاول نتنياهو الظهور بصورة المتطرف أكثر أمام اليمين والمستوطنين


ـــ في الجانب الفلسطيني، تظهر العملية وما أعقبها من أفعال وردود منحيين اثنين متباينين: الأول يتعلق بالشعب الفلسطيني، بتجسيد إرادة متأصلة لديه في رفض الاحتلال وتبني الخيار المقاوم، بما يشمل الضفة التي عمل الجميع، مع السلطة، على قولبة طابعها وانصياعها أمام الاحتلال، وذلك على رغم قيود الاحتلال والسلطة وإجراءاتهما القمعية. ففي نتائج العملية ومثيلاتها مما سبق، ومما سيأتي، ترشيد فلسطيني لإبقاء خيار المقاومة حياً في الوجدان العام فضلاً عن الساحة، وتبعاتها الميدانية في الدفع إلى مواصلتها، وهي خطوة يمكن توظيفها في مواجهة التطبيع كرد فلسطيني شعبي مقابل، وكذلك خطوة استباقية، في حال تمددها إلى عمليات لاحقة ضد مشروع إنهاء القضية بـ«صفقة القرن» الأميركية. وفي المنحى الثاني، أي السلطة، يسجل لها رفضها الخضوع للإملاءات الأميركية في «صفقة القرن»، وهي في ذلك تساهم في تحصين الموقف الفلسطيني في وجه الاحتلال وأطماعه المطلقة في إنهاء القضية بلا أثمان. لكن السلطة، من ناحية أخرى، تسيء الرؤية وتخطئ الموقف في العمل ضد شعبها ومقاوميه عبر تنسيقها الأمني جنباً إلى جنب مع الاحتلال ضد المقاومين، فهما مسلكان متناقضان لا يتساوقان، ومن شأن الثاني أن ينهي فعالية و«إنجاز» الأول، إذ لا يحول دون «صفقة القرن» إلا إعادة إحياء وتفعيل المقاومة وخيارها.