ومما يميّز الموقف الروسي الجديد، أيضاً، أنه يأتي في ذروة المساعي الإسرائيلية لعقد لقاء بين الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في باريس، على هامش «ذكرى الحرب العالمية الأولى». وفي موازاة محاولات الاستنجاد بواشنطن لدعم الموقف الإسرائيلي، وأيضاً في مقابل محاولات جس النبض الروسي عبر سلسلة مواقف صريحة ومباشرة على لسان رأس الهرم السياسي والأمني، ومن خلال تسريبات إعلامية (وتحديداً في أعقاب إعلان مصدر مقرّب من رئيس الحكومة أن الجيش قام بضربتين عسكريتين في سوريا منذ ما بعد سقوط الطائرة الروسية).
مع ذلك، يلاحظ أن تل أبيب التي صمتت رسمياً عن أغلب اعتداءاتها في الساحة السورية خلال السنوات الماضية، بادرت إلى التأكيد، وعلى لسان أعلى مستوى رسمي، أنها واصلت وتواصل اعتداءاتها رغم الازمة القائمة مع موسكو، بناءً على فرضية صحة كلام «المصدر المقرّب من نتنياهو». وهو ما يعكس حقيقة أنها انطوت على أبعاد سياسية، منها ما يتصل بالواقع الداخلي الإسرائيلي، ومنها ما يتصل بمحور المقاومة والروسي أيضاً.
أراد نتنياهو وليبرمان أن يؤكدا للرأي العام أن إسرائيل ليست في موقع المردوع
في الداخل، أراد نتنياهو وليبرمان أن يؤكدا للرأي العام أن إسرائيل ليست في موقع المردوع، وأن «سيد الأمن» (نتنياهو) ما زال يدير المعركة بنجاح واحتراف، وهو جانب بات أكثر إلحاحاً أيضاً في الحسابات الداخلية، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات العامة. وأراد الثنائي القيادي في تل أبيب أيضاً، توجيه رسالة ـــ بدت عقيمة ـــ إلى محور المقاومة بأن المعادلة التي كانت سائدة قبل الثامن عشر من أيلول، ما زالت هي نفسها. وفي مقابل الطرف الروسي المتصلب في موقفه، أرادت تل أبيب الإيحاء بأنها ستواصل اعتداءاتها مع أو من دون تنسيق مع الجيش الروسي.
في المقابل، حرص الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية على التأكيد أن المستشارين العسكريين الروس يواصلون تدريب القوات السورية على تفعيل منظومة صواريخ «اس 300»، وهو ما يشكل رسائل مضادة بأن موسكو ماضية في خيارها الذي أعلنته، وأن منظومة الدفاع الجوية المتطورة باتت جزءاً من الواقع السوري. وهو ما يعني أن على تل أبيب في المقابل أن تتعامل بواقعية مع هذا المستجد العسكري الذي ينطوي على أكثر من رسالة سياسية وردعية.
المسار التراكمي للمواقف والخطوات الروسية، بدءاً من اللحظة التي تلت سقوط الطائرة مروراً بمواقف بوتين قبل أيام (ليست مهمتنا إقناع إيران بالخروج من سوريا، ومن يطالب بذلك عليه تقديم ضمانات بعدم دعم الجماعات الإرهابية في سوريا)، وصولاً إلى رسالة الجنرال كوناشينكوف التي التقطتها صحيفة «معاريف» تحت عنوان «رسالة من روسيا إلى اسرائيل»، يتوقع أن يُعزِّز التقدير لدى المؤسستين السياسية والامنية، بأن التصلب الروسي يتجاوز في أبعاده وأهدافه تل أبيب وصولاً إلى الكباش مع واشنطن في سوريا والمنطقة.
ومن الواضح أن إعلان وزارة الدفاع الروسية أيضاً استكمال نقل منظومة «اس 300»، شكّل أيضاً رسالة إضافية حول الأبعاد الردعية والدفاعية التي تعززت في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية، على الأقل في مواجهة سقوف عدوانية مُحدَّدة كانت تلوّح بها تل أبيب.
الحد الادنى في وصف مفاعيل ما بعد سقوط الطائرة الروسية أن تل أبيب تلقت درساً قاسياً من موسكو سيحفر عميقاً في ذاكرتها، وسيحضر بقوة لدى دراسة أي خيارات عملانية لاحقة. وعزَّز لديها أيضاً التصوّر بأنها باتت أمام مرحلة جديدة في التعامل مع الساحة السورية. وفي ما يتعلق بالمساعي الحالية، يتوقع أن تكون المؤسسة الإسرائيلية أكثر إدراكاً لمحدودية الرهان على امكان تطويع الموقف الروسي.
في كل الاحوال، يبدو أن مؤسسة القرار في تل أبيب باتت أكثر إرباكاً في دراسة خياراتها المضادة، وما سيُسهم في رفع منسوب القلق لديها، اعتقادها أنه ليس أمامها خيار سوى مواصلة اعتداءاتها في الساحة السورية، التي تشكل الخيار العملاني البديل من سقف الانكباح الذي سوف يعمِّق من أزمة اسرائيل الاستراتيجية ويُقوِّض حضورها السياسي في معادلة ما بعد الانتصار على الإرهاب، ومن سقف المغامرة الذي يرفع من منسوب المخاطر على عمقها الاستراتيجي.
في المقابل، تدرك تل أبيب أيضاً أنه ليس أمامها سوى تحييد الجيش الروسي في الساحة السورية، وعدم استفزاز موسكو، التي في الأساس لا تنظر إليها كعدو، تجنّباً لردود فعل تعزّز المنظومة الدفاعية العسكرية السورية، أبعد مدى مما شهدته حتى الآن.