لحق تصدع كبير في علاقات السعودية الخارجية، جراء الجريمة التي وُصفت في الغرب، بالجريمة الوحشية في حق الصحافي السعودي جمال خاشقجي. تحولت الواقعة بتفاصيلها المرعبة، إلى قضية رأي عام مناهض للسعودية، فأسقطت القناع عن زيف الادعاءات الغربية، بأن المملكة حليفٌ نظيفٌ وتتّبع المعايير الدولية في علاقاتها الخارجية، وكذلك في مقاربة شؤونها الداخلية.الأهم قضية خاشقجي، أنها سلطت الضوء على كذب الغرب وزيف ادعاءاته المزعومة عن حقوق الإنسان العالمية، والسقوط المريع لما يسمونه القيم والمبادئ القائمة على أساسها دولهم، مقابل تغليب لغة المصالح والصفقات. فلم تستطع الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، البقاء على وضعيتها السابقة المخادعة والمزيفة، فاضطرت تحت وطأة ضغط الرأي العام الأميركي والعالمي، وكذلك مجاراة للحسابات الانتخابية النصفية في منتصف الشهر الجاري، إلى خلع القفازات الحريرية، التي طالما أصبغت سياستها المخادعة والمنافقة، فسقط الستر عن وجهها، وبانت حقيقتها النفعية الخبيثة، وانكشفت سوءاتها دفعة واحدة، وفُضحت فظاظة سياستها الخارجية الخشنة، وشنها للحروب العدوانية والقذرة، بغية السيطرة على العالم، وسرقة موارده، تحت ذرائع واهية.
ظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، المختصرة علومه ومعارفه، وكذلك نمط تفكيره، وحتى قابلياته على الصفقات والحسابات المالية والعقارية التجارية، من دون أي اهتمام بصورة السياسات الخارجية «البراقة» لأكبر دولة في العالم. بدا في انتقاله أو تحوله من مربع التبرير والنفي والتبرئة لابن سلمان، إلى مربع التذبذب والتردد في تلك القضية تحت وطأة الضغوط حتى من مسؤولي حزبه، أن القضية تستنزف قدراته العقلية والذهنية، وكأن انتقاله إلى المربع الثاني، ينتقص من حياته العزيزة على قلبه، وهو الحريص على الاستلذاذ والتمتع بها إلى حدها الأقصى بطريقته الشوفينية.
أدار ترامب نقاشاً علنياً اعتادت الإدارات الأميركية السابقة على نقاشه في الدوائر المغلقة للسياسات الخارجية والأمن القومي الأميركي. فكر بصوت عالٍ، شارك فيه الجمهور على الهواء مباشرةً، موحياً أن تردده نابعٌ من حرصه على رفاهيته. بدا حائراً بين لغته تلك، ولغةٍ اعتادت واشنطن على اتباعها في ترك حلفائها لمصيرهم، أثناء الضيق والملمات، بل وفي كثير من الحالات، تآمرت عليهم، بعد أن خدموا مصالحها عقوداً طويلة، حينما أصبحوا عبئاً عليها، كما حصل مع الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، والرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، وكثرٍ غيرهم.
على أن محاولات ترامب التمسك بابن سلمان، ليس وفاءً للصداقة بينهما، فهذه ليست في قاموسه البتة، بل لأن الكثير من الصفقات («صفقة القرن» لتصفية القضية الفلسطينية، وحصار إيران...) التي أُبرمت أو وعدت المملكة بتبنيها ودعمها، متعلقة بشخص ولي العهد محمد بن سلمان، والإتيان بغيره، قد يعرّض تلك الصفقات للأخطار أو الاضطرار إلى إجراء تعديلات تضعف من قيمة تلك الصفقات.
أسئلة كثيرة تُطرح في عواصم القرار العالمي، وكذلك في إسرائيل، عن «صفقة القرن» وإمكانية دعمها من أمراء غير محمد بن سلمان، لا سيما أن الأرضية مُهدت للصفقة، بعد مسار طويل من جهود التطبيع السياسي والأمني والاقتصادي والرياضي، بمواكبةٍ ومتابعةٍ كبيرتَين من ابن سلمان نفسه. والجواب أو الأجوبة إلى الآن، لم تتضح في واشنطن ودول القرار، ومن ضمنها إسرائيل، إذا ما كان بديل ابن سلمان جاهزاً، ومن ثم قادراً على الاستمرار بنهج الأخير. تبدي كل من واشنطن وتل أبيب خشيتهما، من أن تذهب تلك الجهود سدىً، أو أن تكون حياة ابن سلمان السياسية غير قابلة لبقائه كرجل «قوي» قادر على ممارسة دوره كالسابق، في ظل هشاشة وضعه واهتزاز موقعه بعد التشوه الذي لحق بصورته، كما تشير كل الدلائل.
حتى الآن، لم يتخذ الرئيس الأميركي قراراً واضحاً وصريحاً، لكيفية التعامل مع الأزمة، مع ترجيح استمرار حمايته لابن سلمان. وإن كانت الإدارات الأميركية السابقة، قد دأبت على رفع الغطاء عن حلفائها، في مثل هذه الحالات المعقدة، لكن ترامب كان ولا يزال متذبذباً، وعينه لم تتزحزح بعد عن الصفقات والمليارات والوظائف. غاب ترامب عن المتابعة العلنية لقضية خاشقجي، بعد أن استمع إلى تقرير مديرة الاستخبارات «سي آي أي»، جينا هاسبل، من دون أن يحسم موقفه النهائي في شأن كيفية التعاطي مع الحليف السعودي الوثيق، غير أن الدعوات للكونغرس إلى التدخل، كما دعت صحيفة «واشنطن بوست»، ستملأ الفراغ، إذا واصلت إدارة دونالد ترامب حماية ولي العهد السعودي، في إشارة واضحة إلى أن ترامب لا يزال يؤمن الحماية لابن سلمان.
لا شيء محسوم ونهائي في واشنطن، وإن كانت الرياض تتعامل مع الداخل والخارج على أن ما حصل لا يتعدى العمل الجرمي والجنائي، ضمن الإطار الذي أعلن من قِبلها، وترفض تبيان الحقيقة الكاملة للقضية، مهما تعرضت لضغوط.
لكن الواضح والأكيد، أن قضية الحكم في المملكة السعودية، أصبحت على المحك، وللمرة الأولى ينتقل الحكم السعودي وولاية عهده من مطابخ الإدارة الأميركية، وأجهزة استخباراتها، والدعائم والأسس الداخلية التي يبتنى عليها، إلى صلب اهتمام الرأي العام العالمي، في انكشاف مريب، وفي وضع لم يحدث منذ نشوء المملكة.