منذ ما بعد سقوط الطائرة الروسية، في الثامن عشر من أيلول الماضي، يقف العدو الاسرائيلي أمام منعطف تتجاذبه مجموعة سيناريوات محتملة، كلٌ منها يستند إلى عوامل مُحفِّزة ومصالح وقيود، قبل أن يتبلور المسار الفعلي الذي ستؤول إليه الاعتداءات في الساحة السورية. وتتراوح هذه السيناريوات ـــ نظرياً ـــ بين المنسوب المقيَّد الذي آلت اليه في الأسابيع الأخيرة، وصولاً إلى تصعيدها واتساع نطاقها، وما بينهما. ولا يخفى أن لكل منها ما يترتب عليه من نتائج وتداعيات مفصلية تتصل بمستقبل المعادلات التي تحكم حركة الصراع مع العدو.مع ذلك، تبقى هناك خصوصية لتوصيف الواقع القائم وعوامل تشكله، وتحديداً بعدما مرّ بمحطات مفصلية تخلَّلتها تحوَّلات أسهمت في بلورته، وفرضت قيوداً تأسيسية لما تلاها وسيليها. من هنا تجد تل أبيب نفسها مضطرة إلى دراسة دائمة لخياراتها، ومواصلة بذل مساعيها للقفز فوق هذه القيود التي أدت إلى تعميق فشل رهاناتها وخياراتها في الساحة السورية. أضف إلى أن مخاوفها من أن تسهم مواصلة المسار السوري والاقليمي الحاليين إلى مفاقمة التهديدات على الأمن القومي الإسرائيلي في المديين المتوسط والبعيد.
منذ سقوط الطائرة الروسية، ومقتل 15 عسكرياً كانوا على متنها، يواصل المسؤولون الإسرائيليون تأكيد عزمهم على مواصلة اعتداءاتهم في الساحة السورية تحت شعار منع التمركز العسكري الإيراني. لكن القدر المتيقّن، الذي لا يحتاج إلى مصادر خاصة، أن أداء الإسرائيلي تغيّر منذ ذلك الحين، حتى لو حاول مصدر مقرّب من محيط رئيس الحكومة، التأكيد أن «الجيش هاجم مرتين منذ سقوط الطائرة الروسية» (كما نقل موقع قناة 20). هذه الهوة الفاصلة بين المواقف والأداء، دفعت الخبير في شؤون الشرق الأوسط، ايال زيسر، إلى القول إن هناك «تبايناً حاداً لحد الآن بين محتوى تصريحات المسؤولين الإسرائيليين الذين يصرّون على أن حرية العمل الإسرائيلي لم تتضرر... وبدلاً من تقارير تتحدث عن هجمات لسلاح الجو، (حتى الآن) يمكن أن نقرأ عن تقارير عن إكمال نشر بطاريات أس 300، من قبل الروس في سوريا». وهو مستجد حضر بقوة في حسابات القادة الإسرائيليين، لأكثر من اعتبار سياسي وعملاني.
إلى ذلك، تتزايد التقارير الإسرائيلية والأميركية التي تتناول تعاظم التمركز العسكري الايراني في سوريا، بل يؤكد استمرار الصراخ الرسمي الإسرائيلي هذه الحقيقة والمخاوف من آفاق هذا التعاظم. وبحسب زيسر، أيضاً، فإن «نشر أسراب حربية أو منظومات أسلحة متطورة يمكن تشخيصها بسهولة... كل هذا هو نقطة في بحر، بالمقارنة مع وجود عشرات الآلاف من المقاتلين الذين أحضرتهم إيران إلى سوريا، بالإضافة إلى آلاف المقاتلين الإيرانيين وأيضاً مقاتلي حزب الله».
الهوة الأخطر والأكثر حضوراً من تلك التي أشار إليها زيسر، تلك التي تفصل بين واقع تعاظم التهديد في الساحة السورية وانطلاقاً منها، وبين مواقف قادة العدو والمسار العدواني العسكري المباشر المستمر منذ أكثر من خمس سنوات. وعوامل تشكّل هذا الواقع والهوة التي نتجت عنه، تتجاوز المحطة الروسية التي استجدت قبل أكثر من خمسة أسابيع، لكنها أسهمت في تعميقها ومفاقمتها.
تراهن تل أبيب على دور أميركي لإحداث خرق في المفاوضات مع موسكو


العامل التأسيسي الأول الذي أسهم في تَشكُّل الواقع القائم الآن، بعد فشل الرهان على الجماعات الارهابية، تمثّل في فشل استراتيجية «المعركة بين الحروب». ومن أبرز معالم هذا الفشل المدوي تنامي قدرات حزب الله وتطورها على كافة المستويات، والتي يحاول العدو استهدافها خلال عبورها في الساحة السورية. وحضر هذا التقييم الاجمالي لمحدودية نتائج هذه الاستراتيجية، في ما أشار اليه زيسر بالقول إن «هذه المعركة كما يبدو استنفدت نفسها». مع ما ينطوي كلامه على التأسيس لضرورة دراسة خيارات إضافية.
العامل الثاني الذي كان له إسهام أساسي أيضاً في بلورة المعادلة التي تحكم حركة الاعتداءات الإسرائيلية، وتشكُّل الواقع الميداني الحالي، تمثل في القيود التي نجح حزب الله ومحور المقاومة في فرضها على أداء العدو العملاني، وأدى ذلك إلى وضع الإسرائيلي أمام خيارين: إما الالتزام بها، مع ما يترتب عليها، أو المخاطرة بامكانية التدحرج نحو مواجهة واسعة لا يريدها أي من الاطراف، وحضرت هذه القيود بمجملها، أيضاً، في ما تابعه زيسر قائلاً: «القرار بمنع تمركز إيران في سوريا، تطلب حزماً وجرأة وقدرة استخبارية وعملانية، وبذات الوقت حذراً لعدم تدهور المنطقة إلى مواجهة شاملة».
الحدث الأبرز المؤسِّس والمثبت لهذه القيود، في الأشهر الأخيرة، تمثّل في ليلة الصواريخ في العاشر من أيار الماضي، رداً على استهداف سلاح الجو أعضاء «الحرس الثوري» في مطار «تيفور»، فجر العاشر من نيسان الماضي، وأدى في حينه إلى استشهاد عدد من عناصر «الحرس». وحول ذلك يضيف زيسر أيضاً، «إن المواجهة الإسرائيلية الإيرانية في سوريا في أيار الأخير لم تنته بالضرورة بنجاح (اسرائيلي)، إذ تم فيها رسم خطوط حمراء واضحة تحرص إسرائيل على الالتزام بها، وهي الامتناع عن قتل جنود إيرانيين، وهذا أيضاً يقيّد من القدرة على العمل». وهو ما يشكِّل إقراراً إسرائيلياً غير مسبوق بالنتائج التي حققتها ليلة الصواريخ، مع أن الأداء العملاني اللاحق يكشف ويؤكد هذه الحقيقة، لكن لم يصدر حتى حينه أي إقرار بها.
بعد هذه المحطات، أتى سقوط الطائرة الروسية وما نتج عنه من مفاعيل وتداعيات لم ترسو حتى الآن على صيغة نهائية. لكنها فرضت أيضاً قيوداً إضافية على المسار العملاني العدواني. وتواصل تل أبيب مساعيها لبلورة صيغة تنسيق جديدة بين الجيشين الروسي والإسرائيلي، تكفل هامشاً واسعاً من المبادرة العملانية. ويكشف تأخّر التوصل إلى حل لهذه القضية عن تصميم روسي على فرض سقف تنسيقي على الطرف الإسرائيلي يرى فيه تقييداً لحركته. الأمر الذي وضعه بين حدين، إما القبول بالطرح الروسي أو التكيّف مع تزويد الجيش السوري بمنظومات دفاع جوي ورادارات متطورة، مع منسوب مرتفع من المخاطرة على سلاح الجو، بما فيها إمكانية تكرار حصول تداعيات جانبية خطرة، بفعل ضربات تقدم عليها إسرائيل بمواجهة هذه المنظومات، خاصة أن المستشارين الروس سيبقون يديرون هذه المنظومات لعدة أشهر على الأقل، كما تشير تقارير إعلامية إسرائيلية.
ومن أجل تفادي هذه الخيارات، يبدو أن تل أبيب تراهن على دور أميركي فاعل لإحداث خرق في المفاوضات مع موسكو، بعد فشل مساعيها، وهو ما اتضح في ما نقله المصدر المقرَّب من محيط نتنياهو، بالقول إن من المتوقع أن يلتقي رئيس الحكومة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد أسبوعين في باريس، خلال مشاركتهما في مناسبة ذكرى الحرب العالمية الأولى (لم يُحسم اللقاء من قبل الجانب الروسي بعد)، مضيفاً أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيشارك في اللقاء.
الحقيقة التي يقرّ بها صناع القرار في تل أبيب، أن الكيان الإسرائيلي يواجه أهم تحدّ استراتيجي، يتمثل في استعادة الدولة السورية عافيتها العسكرية والصاروخية، وفي تعاظم قدرات محور المقاومة، وهو ما سيترك آثاراً وتداعيات خطيرة على المكانة الاستراتيجية لإسرائيل في المنطقة. وتسعى إسرائيل في المقابل، ومعها الولايات المتحدة، إلى محاولة فرملة هذا المسار التصاعدي، الأمر الذي يضعها بين مخاطر القيود التي قد تتعاظم، وظهرت نتائجها حتى الآن، ومخاطر المغامرة التي ليس من الصعب تخيّل نتائجها، وفي ضوئها ستتحدد معادلات الصراع الاقليمي، ويرتسم مستقبل المنطقة لسنين طويلة مقبلة.