القاهرة | بخطى ثابتة وسريعة، تسير مصر للاقتياد بالتجربة الرومانية في تسليم الحكم فيها بعد الثورة لرجال العهد الذي ثار عليه الشعب المصري؛ فالثورة في مصر لم تتعلم من تجارب الثورات السابقة، وخاصة الثورة الرومانية، بل على العكس، تتجه الثورة إلى الامتثال ـ إلى حد التطابق ـ مع التجربة الرومانية التي ما لبثت أن سلمت الحكم للنظام القديم خلال 6 سنوات، وهو ما لم تحتج مصر إلى نصف سنواته لتسليم مقاليد الحكم لنظام أمني يشبه ما كان عليه في زمن الرئيس الأسبق حسني مبارك.
عوامل التشابه بين الثورتين كثيرة، لعل الابرز فيها أن سقوط الديكتاتور لم يعن انتقال السلطة إلى الثوار، بل انتقلت الثورة بعد ما يشبه «الانقلاب» من داخل النظام.
الثورة الرومانية بدأت في 16 كانون الأول عام 1989 واستمرت لمدة أسبوع، بينما استمرت الثورة المصرية التي اندلعت في 25 كانون الثاني 2011، 18 يوماً أطاحت فيها نظام الرئيس حسني مبارك. أحد أسبابها الرئيسية حينها «الحرية والعدالة الاجتماعية»، بالإضافة إلى الدولة الأمنية التي رسخها مبارك بقيادة وزير الداخلية الأسبق اللواء حبيب العادلي، وهو ما أثار الرومان أيضاً على الحزب الشيوعي الحاكم.
لم تستقر رومانيا بعد ثورتها، ولم تتقدم، ولم تصبح دولة مدنية ديموقراطية؛ حيث تولى الرئاسة بعد الثورة ايون ايليسكو، وهو احد رجال الرئيس تشاوشيسكو الذي انتفض عليه الشعب. فقام ايليسكو بالانتقام من الثوار من طريق الاعتقالات والاغتيالات والإعدام لبعض الثوار بمحاكم عسكرية وبتهم ملفقة، واستطاع بذلك افشال الثورة الرومانية وسرقتها منهم. وهي المرحلة التي ما لبثت مصر أن وصلت لها عقب 3 سنوات فقط من ثورتها، حيث انتقل ثوار حركة «6 أبريل» وحركة «أحرار» وبعض شباب جماعة الإخوان المسلمين رفقاء ثوار «25 يناير» للسجون، بالإضافة إلى تضمين الدستور الجديد نصاً يسمح بمحاكمة المدنيين عسكرياً.
في الوقت نفسه، لعب الإعلام الخاضع للنظام دوراً مزدوجاً، في الثورتين؛ فمن ناحية، أسهم في نشر الذعر من طريق الشائعات الكاذبة المتتالية، وأمعن أيضاً في تشويه صورة الثوار، وتتالت الاتهامات لمن قاموا بالثورة، بأنهم خونة وعملاء، ويتلقون أموالاً من الخارج، لإسقاط الدولة وتخريب الوطن مع الهلع والأزمات الطاحنة، وهو ما أثر على رأي المواطنين بالثوار وتبدل نظرتهم من الشباب.
وفي عرض سريع للسنوات الثلاث، نجد أن الثورة المصرية سارعت في عودة النظام القديم مقارنة بنظيرتها الرومانية، وسمحت عبر الأنظمة السياسية المتعاقبة عليها بإعادة إنتاج نظام «مبارك» في ثوب جديد، أطلق عليه مؤيدو ثورة «30 يونيو»، التأييد الشعبي والنخبوي لنظام الحكم الرئاسي لا البرلماني، وإجراء الانتخابات البرلمانية بالنظام الفردي.
تُعَدّ «جبهة الإنقاذ» بمثابة العامل المشترك بين الثورتين؛ فالرومانية تشكلت من الصف الأول والثاني للحزب الحاكم، بينما في الثانية تشكلت من مجموعة الأحزاب الكرتونية التي أعطت الشرعية مراراً وتكراراً لنظام مبارك أثناء خوضها الانتخابات، ولكنها تشكلت في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، لإنقاذ مصر من حكمه، بحسب قول وزير الخارجية الأسبق عمرو موسى في تصريح خاص لـ«الأخبار».
استطاعت جبهة الإنقاذ الرومانية أن تقبض على زمام الأمور مؤقتاً، وأتخذت خطوات إزاء حل الحزب الشيوعي، واضطلعت بمحاكمة وسجن بعض رموز النظام القديم من المقربين من تشاوتشيسكو. أما نظيرتها المصرية، فاستطاعت بظهيرها الشعبي الرافض لحكم «الإخوان» وبمساعدة مراكز قوى الدولة عزل الرئيس محمد مرسي، ومن ثم زج رجال نظامه في السجون، تبعهم بعض الثوار.
في أول برلمان روماني ما بعد الاستقلال، وكانت منوطة به كتابة أول دستور ديموقراطي للبلاد، أتى الدستور ميالاً لإطلاق صلاحيات السلطة التنفيذية وخاصة الرئيس، على حساب السلطة التشريعية، وهو ما ظلت على نمطه مصر خلال دستوريها اللذين وضع أولهما البرلمان ذي الأغلبية الاسلامية، ووضعت الثاني لجنة الـ50 ذات الأغلبية المدنية.
ثواﺭ رومانيا عندما أحسوا ﺑﺄﻥ ﺇﻳﻠﻴﺴﻜﻮ ﻳﺴﻌﻰ إلى إﺟﻬﺎﺽ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ ﻧﻈﻤﻮﺍ تﻈﺎﻫﺮﺓ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﺭﻓﻌﺖ ﺷﻌﺎﺭ: «ﻻ ﺗﺴﺮﻗﻮﺍ ﺍﻟﺜﻮﺭﺓ»، ﻓﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺇﻳﻠﻴﺴﻜﻮ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻭﺟﻪ ﻧﺪﺍﺀً عبر شاشات ﺍﻟﺘﻠﻔﺰﻳﻮﻥ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ ﺍﻟﺸﺮﻓﺎﺀ، بالنزول والتصدي لما وصفهم بالخونة. المشهد نفسه تكرر مع خطاب وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي، الذي من المحتمل أن يؤدي دور «ايلسيكو مصر»، عندما طالب المواطنين الشرفاء بتفويض تارة، والنزول لميدان التحرير للاحتفال بمكتسبات الثورة تارة أخرى.
سارت الثورة المصرية على نفس الدرب قصداً أو جبراً، لكن النتيجة واحدة؛ حيث سرق المجلس العسكري الثورة وتعاطى معاها، وأصبح هو مركز «الثورة المضادة» بتصديه لإعادة هيكلة وزارة الداخلية وتفويته الفرصة على عزل أعضاء الحزب الوطني الفاعلين، وفي ذلك إعادة إنتاج جزئية لنظام مبارك. ونجح في تأليب الناس على الثورة والثوار والحركات والقوي الوطنية.
ضمان مصالح النخبة العسكرية كما هي من دون تغيير، كان حاضراً بجلاء على أجندة العسكريين في مصر، ولكن ليس من خلال مصادرة المجال السياسي الآخذ في الانفتاح بعد انهيار أمن الدولة، بل من خلال حمل القوى السياسية على إقرار وضعية خاصة للجيش تعزله بموازنته وهيكله عن المؤسسات الديموقراطية التي قد تنشأ وقد تمارس عليه رقابة مالية أو سياسية، ومن خلال وضع آلية للسياسة الخارجية كمجلس دفاع قومي يضمن للمجلس دوراً إلى جانب رئيس أو برلمان منتخبين.
رجال مبارك لم يطيلوا غيبتهم بعد، بل منهم من حرص على الاختفاء حتى حان وقت الظهور كفتحي سرور، رئيس البرلمان المنحل الأسبق، داعياً المواطنين إلى التصويت بـ«نعم» على الدستور، وفي انتظار مزيد من الظهور لآخرين كمحمد كمال سليمان، ومفيد شهاب، وعلي الدين هلال، أعضاء لجنة السياسات في الحزب الوطني المنحل، لينتقموا من الثوار على خلفية قانون التظاهر الساري، وذلك بعدما أطاحوا زعيمهم والأب الروحي لهم حسني مبارك.