أبرز هدف لمؤتمر «جنيف 2» هو فشله. بعده تستطيع السلطة السورية أن تقول إنها مدّت يدها للمعارضة فأفشلها «الائتلاف» فتكمل العمل العسكري. بعده، أيضاً، يستطيع «الائتلاف» التذرع برفض النظام بحثّ تنحي الرئيس بشار الأسد وقيام الهيئة الانتقالية فيحمِّله مسؤولية الفشل وينسحب وتنتهي المسرحية. لنتخيّل قليلاً المشهد الثاني في المسرحية، حيث أنّ المشهد الأول كان في كلمتي وزير الخارجية وليد المعلم ورئيس «الائتلاف» أحمد الجربا من على منبر الأمم المتحدة وأمام كاميرات العالم. في المشهد الثاني، يدخل الوفدان إلى غرفة التفاوض. يجلسان على طاولتين تتوسطهما طاولة المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي. يتلو الإبراهيمي، تماماً كما يفعل مخرج المسرحية، نص الافتتاح طالباً من الطرفين التفكير بما يتعرض لهم شعبهما. يتمنى عليهما البحث عن حل ينهي القتال. يرجوهما أن يستخدما لغة دبلوماسية تساعد في الحل ولا تفاقم المشاكل. يحاول أن يقول إنّ قواسم مشتركة يمكن التفاهم في شأنها. يؤكد أنّ الجميع حريص على انقاذ سوريا. ثم يرفع الجلسة ويسدل الستارة مؤقتاً.

حتى ساعة متأخرة من ليل أمس كانت تفاصيل المشهد الثاني غير واضحة. هل يستأنف الطرفان المفاوضات في غرفة واحدة أم في غرفتين منفصلتين. بقيت الأجواء تشاؤمية جداً. قال وفد «الائتلاف» إنه لا يريد الجلوس في غرفة واحدة مع وفد النظام خصوصاً بعد الخطاب الأول لوليد المعلم في افتتاح مؤتمر مونترو. اقترح الإبراهيمي غرفتين منفصلتين لنقل وجهات النظر، وإذا استقر الأمر على شيء يعيد جمعهما في غرفة واحدة. سيحسم الأمر صباح اليوم.
تفنّن وزير الخارجية في المشهد الاول بخطف انظار العالم فماذا سيخترع هذه المرة؟ لن يتوجه شيخ الدبلوماسية السورية ورئيس الوفد المفاوض إلى وفد الائتلاف مباشرة بالكلام. سيخاطب الإبراهيمي، ثم يتولى المبعوث الدولي إعادة الجمل نفسها أو ربما يختصر قليلاً. هذه في حد ذاتها مهمة معقدة وصعبة في الحالات العادية، فكيف إذا كان المعلم هو المتكلم. لم يعد سراً أنّ الوزير السوري سيؤكد على أولوية مكافحة الارهاب. لن يقبل مطلقاً الحديث عن نقل الصلاحيات أو عن هيئة انتقالية أو عن تنحي الاسد. هذا بالضبط ما يرفضه وفد «الائتلاف».
ينتقل الكلام إلى الوفد المعارض. سيكرر المتحدث أنّ الاولوية الوحيدة للمفاوضات هي تنحي الأسد ونقل الصلاحيات. كان الجربا قد مهَّد أمس للكلام بمؤتمره الصحافي. قال بلغة اليقين «إنّ نظام الأسد لا يمكن أن يبقى ولن يبقى وهو أصبح صورة من الماضي ينتمي الى زمن الأبيض والأسود». قالها وغادر جنيف.
لا لون رمادياً في المفاوضات. هنا عقدة المسرحية التي ستؤدي إلى الفشل. إما أبيض أو أسود. كل طرف سيتمسك بموقفه.


كيف سيحصل الفشل؟

يؤكد الوفد السوري الرسمي أنه لن يبادر إلى الانسحاب من المفاوضات. المعلم وعد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بذلك خلال لقائهما على هامش افتتاح المؤتمر في مونترو. يعرف الدبلوماسي السوري، الخبير بشؤون التفاوض وبالعقل الأميركي مذ كان سفيراً لبلاده في واشنطن، كيف يدفع خصومه إلى الغضب أو الهدوء. ربما سيتفنن هذه المرة بدفعهم الى الانسحاب. سيكرر ثم يكرر ثم يكرر أن الأسد لن يتنحى وأن البحث بهذا الأمر مرفوض. إما أن يقبل الطرف الآخر أو ينسحب.


هل ينسحب؟

الأمر أكثر من وارد. قد تقفل الستارة سريعاً على المسرحية التي لم تدم أكثر من 3 أيام. لم تنفع الاجواء الحالمة في مونترو في تخفيف رغبة كل طرف بالقضاء على الآخر ولن ينفع هدوء جنيف في تخفيف التصلب.
قد يستمر البعض باضفاء قليل من التفاؤل. هذا مسؤول في الأمم المتحدة يقول، مثلاً، إن التفاوض دائماً صعب في بدايته. يؤكد أنه شارك شخصياً في مفاوضات أصعب كان المتفاوضون فيها يأتون بالسلاح. يقول أيضاً إن الطرفين يفرغان أقسى وأصعب ما عندهما في بداية كل تفاوض. هذا منطقي، يقول، لكن الوسيط يجد في نهاية الأمر قواسم مشتركة فيبني عليها. دور مسؤولي الأمم المتحدة في هكذا حالات أن يتفاءلوا، لكن الحقيقة هذه المرة في مكان آخر.
الحقيقة أن كل شيء صيغ لكي يفشل «جنيف 2». الحقيقة أيضاً أنّ الفشل مطلوب لأن ظروف التفاوض والتسوية لم تكتمل بعد. والفشل مطلوب لأن السلطة تجد نفسها أقوى على الارض وأكثر تماسكاً من المعارضة. والفشل مطلوب خصوصاً لأن المعارضة عجزت عن تأليف فريق يجمع شتاتها وأطيافها ويقدم نموذجاً قوياً للتفاوض.
ليس مهماً كيف ستسدل الستارة على «جنيف 2». الأهم ماذا بعد هذه المسرحية؟ هل يستمر القتال ويستعر في سوريا أم يتم التمهيد لـ«جنيف 3» في ظروف أفضل، فيحضر الجميع بما في ذلك إيران؟

لنعد إلى قصة ابعاد إيران

تبيّن بعد أيام على استبعاد إيران أنّ الضغوط على الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لم تكن وحدها سبب سحب الدعوة. في المعلومات أنّ ضغوطاً سعودية وفرنسية لعبت الدور الأبرز في اقناع بان كي مون بسحب الدعوة. قيل له إنه في حال لم يسحبها فإن «الائتلاف» لن يحضر. في المعلومات، أيضاً، أنّه خلال اجتماع مجلس وزراء الخارجية الأوروبيين في 20 الجاري، نوقشت بعمق قضية دعوة إيران. كان عدد من الدول الأوروبية مؤيداً للدعوة على أساس أن إيران وبعد اتفاقها النووي مع الغرب يمكنها أن تلعب دوراً جيداً، وأنه ليس مناسباً ازعاجها في هذه الفترة. طرح بعض الوزراء مسألة تأثير ذلك على «الائتلاف» المعارض، فعاجلهم وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس بالقول: «لا تقلقوا. لقد اتصلت بالأمم المتحدة ونحن في صدد معالجة الأمر». كان كلام فابيوس واضحاً. أيّده البعض وعارضه آخرون، لكن في نهاية الأمر يتفق الأوروبيون على أن النقطة المركزية مع إيران هي الملف النووي، وأما الملف السوري فهو من صلاحية روسيا وأميركا.
تبدو أوروبا مضطربة جداً في التعاطي مع سوريا. فرنسا ترفع لواء تنحي الأسد. لم يعد الأمر يثير قلقاً عن أهل النظام. يقولون إنهم يستطيعون بكل بساطة أن يدفعوا للارهابيين الاوروبيين المعتقلين عندهم بطاقات سفر ويعيدوهم إلى أوروبا. الاحتمال ليس مزحة. يفتح البعض خطاً مباشراً مع سوريا. يفضل البعض الآخر اللجوء إلى إيران. في أروقة الأمم المتحدة يسمع الزائر كلاماً آخر حول سحب الدعوة لإيران. ثمة من يشير إلى أنّ في الأمر تسوية بعيدة عن الأنظار جرى التوصل إليها باتفاق إيراني ــــ روسي. لم تكن طهران متحمسة أصلاً لحضور «جنيف 2». لعلها تدرك سلفاً أنه لن يؤدي إلى أي شيء. يقال إنها تعمدت رفض الالتزام بـ«جنيف 1»، الذي يلحظ نقل الصلاحيات الرئاسية والأمنية إلى هيئة انتقالية. كانت تدرك مسبقاً أن مجرد التمسك بالأمر يعني رفض حضورها. عدم الحضور يفسح لها في المجال حرية تحرك أكبر في المرحلة المقبلة لمساعدة الحليف السوري. لم تنزعج موسكو كثيراً إلّا في التصريحات العلنية. موسكو نفسها تستطيع القول: نحن أقنعنا النظام بالمجيء إلى طاولة التفاوض وأنتم عرقلتم. تستطيع أن تقول أيضاً إننا حذرناكم من استبعاد إيران.
هكذا احتمال وارد. ليس منطقياً مثلاً أن يكون العالم في أوج تفاهمه مع إيران ويمنعها من الحضور. ليس منطقياً كذلك أن ترسل واشنطن إشارات إلى الرئيس حسن روحاني لفتح سفارة في طهران، ثم تمنع إيران من الحضور؟ الأكيد أن عدم الحضور وسحب الدعوة كانا جيدين للجميع بما في ذلك لأميركا، التي تخلصت من احراج كبير أمام ما بقي من حلفاء لها في المعارضة السورية.
إيران ستحضر المفاوضات المقبلة وليس هذه. هكذا يقال في أروقة الأمم المتحدة. المفاوضات المقبلة ستشهد حضور معارضة أوسع. هكذا قال الروس لهيئة التنسيق وللأكراد وغيرهم. نصحت موسكو المعارضات الأخرى بعدم ركوب الحافلة الأولى من قطار التفاوض لأنها ليست الأهم.
وفد «الائتلاف» الحاضر في «جنيف 2» لا يمثل سوى جزء بسيط من المعارضة. وفي الوفد حضور لا بأس به للإخوان المسلمين. كيف للسعودية مثلاً أن تدعم حضورهم هنا وهي تقاتل إخوانهم في مصر عبر دعمها للفريق عبد الفتاح السيسي؟
تدرك واشنطن نقطة الضعف تلك. يقول بعض مبعوثيها إلى جنيف إنها مصابة بخذلان من المعارضة. يجيب مسؤول معارض في جنيف أيضاً أن أميركا والغرب هما المسؤولان عن هذا الخذلان لأنهما لم يدعما المعارضة بما يكفي من السلاح والمال لاسقاط النظام.
لماذا قبلت موسكو بأن يقتصر حضور المعارضة في «جنيف 2» على «الائتلاف» المنقسم أصلاً على بعضه؟ لماذا قبلت باستبعاد حلفائها الاساسيين في المعارضة؟
الأسئلة كثيرة في جنيف والجواب يكاد يكون واحداً. ثمة شيء ما يطبخ بين موسكو وواشنطن للمرحلة المقبلة. صحيح أن سيرغي لافروف شكا في الأيام الأخيرة من مراوغة الأميركيين واحتيال السفير روبرت فورد. صحيح أيضاً أنّه تهامس مع نظيره الصيني أكثر من مرة حين كانا يراقبن مع الوفد الرسمي السوري كيف أن فورد هو الذي يدخل أعضاء الائتلاف إلى مؤتمر مونترو، وكيف يجلسهم على مقاعدهم كأستاذ مدرسة، لكن الصحيح أيضاً أن الهدف الأساس في التفاوض الروسي ـــ الأميركي حالياً هو محاربة الارهاب.
الأمر ينسحب أيضاً على الاوروبيين. في الاجتماع الوزاري الأخير قال الوزراء الأوروبيون: «إنّ الاتحاد الاوروبي يقاسم الجميع القلق المتعاظم من انتشار التطرف والمجموعات المتطرفة بما فيها داعش والنصرة، وإن مشاركة هذه المجموعات بالصراع يشكل تهديدا لمسيرة السلام ووحدة الاراضي السورية». لا يدعو الاتحاد الأوروبي إلى فرض تسوية على النظام رغم انتقاده الشديد له، وإنما يؤكد على «التفاهم المشترك» لتاليف هيئة حكومية انتقالية تتمتع بكامل الصلاحيات التنفيذية.
يريد المجتمع الدولي بأسره الآن، وفق ما يتبين من كلام الاميركيين والروس، أن يصار إلى اعتماد اجراءات عاجلة لوقف القتال وإيصال المساعدات الانسانية وإعادة النازحين، لكن الخلاف يبقى حول الأولويات. يطرح خصوم النظام السوري أولوية الموافقة على نقل الصلاحيات في أفضل الأحوال أو تزامن المسار السياسي مع الاجراءات الانسانية في اسوأها؟ يرفض النظام وحلفاؤه. يؤكدون أن أي مستقبل دستوري أو رئاسي أو انتخابي يقرره السوريون فقط.
هكذا يبدو «جنيف 2» أمام احتمالين فقط. إما قبول «الائتلاف» بالشروع بالاجراءات العاجلة قبل بحث مستقبل الرئيس أو اسدال الستارة على أكثر المسرحيات سذاجة في التاريخ الحديث.
يبدو للأسف أن الفشل سيكون سيد الموقف مهما زيَّنه الأخضر الابراهيمي. لا تزال السلطة تعتبر أن الحسم على الأرض هو الفيصل، ولا يزال «الائتلاف» ومسلحوه يأملون بأن يؤدي الفشل إلى اقناع العالم بايصال سلاح أكثر... فليستمر القتال بانتظار «جنيف 3». هذا إذا بقي شيء من سوريا للتفاوض عليه.