لا تكاد تتعافى طرابلس من آثار الاشتباكات التي دامت أكثر من أسبوع مطلع هذا الشهر، حتى عادت التحرشات المتبادلة بين الميليشيات مرة أخرى. فجر أمس، أفاق سكان العاصمة على أصوات الرصاص والقذائف المتساقطة وسط الأحياء السكنية، في «خرق خطير لوقف إطلاق النار»، بحسب ما أعلن آمر «القوة المشتركة لفضّ النزاع»، أسامة الجويلي. فمع الصباح، خرجت الميليشيات المتنازعة، والمتمركز بعضها على بعد كيلومترات قليلة من بعضها الآخر، لتتبادل التهم بخرق الاتفاق. «لواء الصمود»، الذي يشارك في الهجوم على العاصمة بقيادة زعيمه صلاح بادي، المنحدر من مدينة مصراتة، قال إن تمركزاته تعرضت لهجوم، فردّ على مصادر النيران، متقدماً للسيطرة على طريق مطار طرابلس الدولي (خرج من الخدمة منذ هجوم بادي عليه في عام 2014). أما «اللواء السابع مشاة»، التشكيل العسكري الأساسي الذي أطلق الهجوم على العاصمة، انطلاقاً من معاقله في مدينة ترهونة، فأصدر «إيجازاً» قال فيه إن قواته تعرضت لمحاولة التفاف فاشلة في محاور مختلفة. ومن جهتها، ردت «قوة الردع المشتركة» (محور أبو سليم الكبرى)، وهي ميليشيا تتبع وزارة الداخلية في حكومة «الوفاق الوطني»، ويقودها عبد الغني الككلي وعائلته، على الاتهام الموجه إليها، بالقول إن ميليشيا صلاح بادي، هي التي بادرت إلى خرق اتفاق وقف إطلاق النار، وحاولت التقدم للسيطرة على المطار، مستخدمة قذائف وآليات ثقيلة، ما استوجب مقاومتها.ورغم أن الاشتباكات، التي سقط فيها جريحان، لم تدم طويلاً، لكن سادت حالة رعب في أوساط سكان المدينة، خوفاً من تجدد المعارك التي أوقعت 61 قتيلاً وأكثر من 150 جريحاً بين نهاية الشهر الماضي وبداية هذا الشهر، ما دفع بعض العائلات إلى النزوح، فضلاً عن انقطاع التيار الكهربائي عن أجزاء واسعة من طرابلس والمنطقة الغربية الممتدة حتى الحدود مع تونس، جراء إصابة مولدات كهربائية رئيسية بالعطل.
لم يصدر السراج ردّ فعل قوياً على الخرق، رغم تهديده بالعقوبات الدولية


بصرف النظر عمّن بدأ الخرق، يبقى من الواضح أن الاتفاق المشترك، الذي جاء برعاية بعثة الأمم المتحدة، لا يزال هشاً، رغم محاولات تثبيته باجتماعات متتالية. لكن الاشتباكات المتجددة، تثبت أن «قوة فضّ النزاع» التي شكلتها حكومة «الوفاق الوطني» قبل أيام، المكونة من كتائب تنحدر أساساً من مدينتي مصراتة والزنتان، لا تزال عاجزة عن أداء الأدوار الموكلة إليها. بل تعكس أيضاً، عدم إيمان التشكيلات العسكرية المتنازعة بمضمون الاتفاق، وبما أن الأخير ليس غاية بحدّ ذاته، فإنه يظل قابلاً للانهيار إذا اعتبرت القوات المُهاجمة أن مطالبها لم تُحقق، أو في حال اتخاذ تدابير ترى الميليشيات الطرابلسية أنها تمسّ بمصالحها، التي راكمتها على مدى عامين ونصف عام (منذ قدوم حكومة «الوفاق»).
رسمياً، لم يصدر رئيس «الوفاق» فائز السراج، ردّ فعل قوياً كما كان متوقعاً، رغم تهديده قبل أيام، خلال اجتماع مع عمداء بلديات المنطقة الشرقية، بأن الفسحة الممنوحة للميليشيات ستضيق كلما تكررت الاشتباكات، وأنه توجد عقوبات دولية قادمة في حال خرق التهدئة. لكن كل ما صدر عن الجهات الرسمية، كان توصية أصدرتها وزارة الداخلية للمواطنين بضرورة الابتعاد عن أماكن الاشتباكات المسلحة، وتوجهها إلى الميليشيات بضرورة «تغليب لغة العقل، والابتعاد عن لغة السلاح، والاحتكام إلى لغة الحوار البناء»، وطلبها من «عقلاء وحكماء المدن»، التدخل لوقف الاشتباكات. البرودة في ردّ الفعل سرت أيضاً على البعثة الأممية الخاصة، فلم تصدر بدورها تهديداً للميليشيات كما كان الحال في الخرق السابق، مع احتمال أن تكون العقوبات بصدد الطبخ على نار هادئة. وأظهرت صور نشرتها البعثة على حسابها في «تويتر»، استقبال رئيسها غسان سلامة، وفداً من بلدية مدينة مصراتة. لكن الاجتماع لم يكن بعيداً عن أجواء العاصمة، إذ أكد سلامة أن «موقف البعثة واضح بأن لا يُستبدَل فريق مسلح بآخر، وبأن تكون كل القوى التي تحمي العاصمة نظامية، ومن جميع المدن».
كلام سلامة يبدو تفاعلاً إيجابياً مع المطالب التي صدرت عن اجتماع القبائل، المنعقد السبت الماضي في ترهونة، والذي حدد مهلة ثلاثة أيام للتفاعل مع مخرجاته، المتمثلة بـ 12 مطلباً، أهمها «استصدار قرار نزع الشرعية، وحل الميليشيات المسلحة المسيطرة حالياً على العاصمة طرابلس»، ورفض «أي ترتيبات أمنية من شأنها المماطلة أو الإبقاء على الميليشيات أو إعادة تدويرها»، و«تشكيل قوة مشتركة من المدن كافة، قوامها الجيش والشرطة النظاميان».