بدأت الرواية بإعلان الحكومة الهولندية، يوم الجمعة الماضي، تخلّيها عن فصائل المعارضة «المعتدلة» في سوريا، في خطوة اعتبرتها الصحف «مفاجئة»، قبل أن يُرفع الستار عمّا حدث في الكواليس. ففي رسالة إلى البرلمان، برّر وزير الشؤون الخارجية الهولندي، ستيف بلوك، القرار بأنه جاء «نتيجة استعادة النظام السوري مساحات شاسعة من البلاد وتقلّص المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المعتدلة»، معتبراً أن المساعدات التي بلغت قيمتها أكثر من 70 مليون يورو «لم تؤتِ ثمارها المرجوة». وحول الجهات المستفيدة، قالت الحكومة إنها دعمت «المعارضة المعتدلة» بالمال في سوريا. كذلك استثمرت في «الشرطة التابعة للمتمردين السوريين»، ودفعت الأموال لما يسمى برنامج «الخوذ البيضاء».
رغم واقعية هذا الاستنتاج نظراً إلى التغيرات الكبيرة على الخريطة السورية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، فإن «المحفز» الأساسي لهذا القرار ظلّ موضع تساؤل حتى صباح الاثنين الماضي. فبعد أيام من الرواية الرسمية، كشف تحقيق أعدته «مؤسسة الإذاعة الهولندية» (NOS) بالتعاون مع صحيفة «تراو»، استفادة 22 فصيلاً مسلحاً من برنامج المساعدات الهولندي، من بينهم «الجبهة الشامية»، وهو فصيل سبق أن صنّفته النيابة العامة الهولندية «منظمة إرهابية».
ذهب نحو 70 مليون يورو إلى فصائل مسلحة و«الخوذ البيضاء»
قُدمت هذه المعطيات قبيل عرضها أمام الرأي العام إلى «الخارجية» التي أوقفت بدورها برنامج المساعدات. القرار الحكومي لم يكن كافياً، لترتفع أصوات من داخل البرلمان تطالب الحكومة بتقديم «إيضاحات»، ولا سيما أن البرنامج سبق أن واجه معارضة شرسة منذ لحظة إعلانه، لكنها لم تؤخذ على محمل الجد. ففي السنوات الماضية، حذّر عدد من النوّاب من «سوء الإشراف» على المساعدات التي تصل إلى الميدان السوري، مطالبين بالمزيد من المعلومات عن نوع «الدعم» والجهات المستفيدة منه. ففي 2015، قدّم حزب «الاتحاد المسيحي»، وهو أحد الشركاء الأربعة في الحكومة، اقتراحاً يدعو الأخيرة إلى وقف دعم «المعارضة المعتدلة»، لكن المبادرة، ومعها أصوات أخرى معارضة، لم تلقَ آذاناً صاغية، وظلّت لائحة المستفيدين سرية.
«ما يحدث في الوقت الحالي هو بالضبط ما كنا نخشاه»، أكّد زعيم «الاتحاد المسيحي»، جيرت جان سيجيرس، في إشارة إلى المعلومات التي كشفتها تحقيقات «NOS» و«تراو».
«هولندا قدمت الدعم إلى فصائل مذنبة بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، منها من تعاون مع الجماعات الإرهابية»، يؤكد التقرير التلفزيوني الذي قال إنه في حين تُصنَّف فيه المساعدات بـ«غير الفتاكة»، فإنها استخدمت في ميادين القتال وساهمت في تسهيل عمل جماعات «غير معتدلة».
في التفاصيل أيضاً، كشفت التحقيقات عن تزويد أمستردام العام الماضي «الجبهة الشاميّة» بشاحنات (بيك آب تويوتا هيلوكس وإيسوزو دي-ماكس) وببزات عسكرية وتجهيزات أخرى (هواتف تعمل بالأقمار الصناعية، وأجهزة كمبيوتر محمولة، وكاميرات…)، وذلك في وقت كان فيه الادعاء العام الهولندي في روتردام يحقق مع مقاتل سبق أن شارك في صفوف هذا الفصيل. ووفق وثائق المحكمة، صنّف الادعاء العام الفصيل المسلح «حركة سلفية وجهادية تسعى إلى إقامة الخلافة»، و«منظمة إرهابية هدفها إجرامي». تواصل الصحافيون مع النيابة العامة التي أكّدت معلومات التحقيق دون التعليق تجنباً لـ«مناقشة سياسة البلاد الخارجية»، فيما أكّدت «منظمة العفو الدولية» تصنيفها «الجبهة الشامية» فصيلاً إرهابياً.
«التقرير يشكل صرخة تستوجب أجوبة»، أكّد النائب عن «الحزب المسيحي الديموقراطي»، بيتر اومتزيغت، فيما تساءل زميله النائب عن حزب «دي 66» التقدمي الهولندي، سيورد سيوردزما، الذي وصف المعلومات الجديدة بـ«الصادمة»، بالقول: «كيف حدث ذلك رغم تحذيرات النواب؟». وكانت وزارة الخارجية قد شددت مراراً أمام النواب على أن البلاد لم تدعم سوى الجماعات «المعتدلة» التي «تحترم القانون الإنساني للحرب… ولا تتعاون مع المتطرفين… وتسعى إلى إيجاد حل سياسي شامل في سوريا». المزاعم الرسمية عارضها التقرير الصحافي الذي قال إن مقابلات أجريت مع أكثر من 100 مقاتل عائدين من سوريا كشفت استفادة الجماعات المسلحة من المساعدات الهولندية، بل «رضاهم الشديد عنها». وأظهرت مقاطع فيديو نشرتها المجموعات المسلحة على صفحتها على «يوتيوب» استخدام المقاتلين السيارات والشاحنات التي زودتهم بها أمستردام لتثبيت مدافع رشاشة لإطلاق النار.
أيضاً، تفاعلت الصحف المحلية مع هذا التحقيق الذي أعاد فتح نقاش عام حول دور البلاد في تأجيج بؤر الصراع. وسبق أن كانت صادرات الدولة الأوروبية من السلاح والعتاد العسكري في صلب المشهد السياسي الهولندي عام 2016، حين قرر البرلمان وقف صادرات الأسلحة إلى السعودية بعد عام من بدء عدوانها على اليمن، وذلك بسبب «انتهاكات حقوق الإنسان» التي سُجِّلَت، والتي ترى المعارضة الهولندية أنها لا تختلف عن الانتهاكات التي فعلتها الفصائل المسلحة في سوريا.