احتفلت المنظمات الحقوقية بإلغاء إسبانيا مطلع الأسبوع الجاري تسليم 400 قنبلة عالية الدقة للسعودية، رغم أن هذه الخطوة الخجولة التي نُظر إليها كـ«إنجاز» في السجل الدولي لحقوق الإنسان تأتي بعد ثلاثة أعوام ونصف عام من بدء العدوان السعودي على اليمن. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ؛ فمراجعة صفقات السلاح تُظهر أن السعودية هي أكبر زبون للأسلحة الإسبانية من خارج الاتحاد الأوروبي، كما أن إلغاء هذه الصفقة لن يكون له أي تداعيات فعلية على الأرض، وذلك في ظلّ مخازن الأسلحة الغربية المفتوحة أمام الدول المشاركة في عمليات القصف والتجويع. من بين هذه المخازن ما هو ملك لمدريد نفسها، إذ إن الصفقة المُلغاة (تقدّر قيمتها بـ 9.2 ملايين يورو) لا تشكّل سوى 0.76% من إجمالي مبيعات الأسلحة الإسبانية للمملكة بين عامي 2015 و2017، التي تقدّر بـ 1.2 مليار يورو.في الواقع، لم يكن القرار إلا «فقاعة إعلامية» شبيهة بالتي أطلقتها ألمانيا في كانون الثاني/يناير الماضي، حين أعلنت وقف تصدير الأسلحة إلى الدول المشاركة في العدوان. وتكمن أهمية القرارات الأوروبية بتعليق تصدير الأسلحة إلى السعودية أو إلغاء بعض الصفقات، كما فعلت السويد وفنلندا وبلجيكا ونيوزيلندا أيضاً، في أنها تكسر الصمت الدولي المحيط بالحرب التي دفعت بالبلد العربي الأشد فقراً، اليمن، إلى حافة «أكبر مجاعة في العالم منذ عقود»، وفق الأمم المتحدة. لكن لا تمثّل هذه الخطوات «المتواضعة رقمياً» تمرداً على الرياض ولا رضوخاً لضغوطات المنظمات الحقوقية، وبالطبع ليست صحوة ضمير بعد سنوات من التواطؤ الصريح المتمثّل في سلسلة من صفقات التسليح التاريخية!
بالعودة إلى الخطوة الاسبانية، فإنها تأتي ضمن سياق سياسي محلي وخارجي معيّن، ولا يمكن معالجتها من دون النظر إلى «الصورة الكبرى». فقرار وزيرة الدفاع الإسبانية، مارغاريتا روبليس، إلغاء الصفقة التي تمّ توقيعها عام 2015 في عهد الحكومة اليمينية السابقة، يأتي بعد أقل من شهرين من وصول الحكومة الاشتراكية إلى سدّة الحكم، وفي وقت تتعالى فيه الأصوات المنددة بصفقات التسليح المشبوهة مع الرياض، بعدما احتلت مجازرها في اليمن عناوين الصحف العالمية أخيراً. إذ إن المنظمات الحقوقية استخدمت مجزرة حافلة سوق ضحيان في محافظة صعدة، التي راح ضحيتها عشرات الأطفال، كورقة ضغط على مدريد التي استغلت بدورها هذه «الفورة» لاتخاذ خطوة من شأنها إسكات المعارضة الداخلية والمنظمات الحقوقية من جهة، وتوجيه رسالة سياسية حذرة إلى السعودية من جهة أخرى، تقول فيها إن أوروبا ليست محسوبة على أحد. أيضاً بقي الاتحاد الأوروبي يحاول لعب دور في الملف اليمني عبر تقديم المقترحات ومساندة المبعوث الأممي، البريطاني الجنسية، مارتن غريفيث، في مساعيه الرامية إلى إعادة تحريك عجلة المفاوضات، ووضع حدّ للأزمة الإنسانية الأسوأ في العالم.
أبرم البلدان صفقات تسليح بـ 1.2 مليار يورو بين 2015 و2017


لكن، بعيداً عن الضجة الإعلامية، تبقى الخطوة الإسبانية في جوهرها فارغة، ويتجلّى ذلك إذا ما قارناها بمذكرة التفاهم التي وقّعها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، خلال زيارته لمدريد في نيسان/ أبريل الماضي، أي قبل خمسة أشهر فقط، وذلك لشراء خمس سفن حربية بقيمة 1.8 مليار يورو، وهي صفقة وصفتها «وكالة الأنباء الإسبانية الرسمية» بـ«أكبر طلب من جهة أجنبية تتلقاها شركة نافانتيا الحكومية لبناء السفن». و«نافانتيا»، التي تعمل منذ 270 عاماً، مصدر رئيسي لآلات الحرب العسكرية في المملكة و«مجلس التعاون الخليجي»، واتضح أثر تعاملات الشركة وأهميتها عندما رفضت الرياض عرض الخارجية الأميركية لشراء أربع سفن قتالية تابعة لشركة «لوكهيد مارتن» واختارت «نافانتيا» محلها.
وفق الأرقام الرسمية، صدّرت إسبانيا أسلحة بقيمة 4.35 مليارات يورو عام 2017، منها 270 مليون يورو إلى السعودية، مسجلة زيادة 133% عن عام 2016، كما أن مدريد رابع مزوّد للأسلحة والذخائر للمملكة.
الجدير بالذكر أن العلاقات الإسبانية ـــ السعودية ليست جديدة، بل تعود إلى حكم خوان كارلوس الذي زار الرياض ست مرات على الأقل في السنوات العشر الأخيرة. ومن جهة ثانية، فإن الانتقادات التي وجهتها المنظمات الحقوقية ليست وليدة هذا العام، بل سبق أن ندّدت كلّ من «منظمة العفو الدولية»، و«مؤسسة السلام»، و«منظمة السلام الأخضر»، و«أوكسفام» بصادرات مدريد العسكرية التي «يمكن استخدامها في ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان». ففي 2013، بعد بداية ما يعرف بـ«الربيع العربي»، أظهر تقرير للحكومة الإسبانية أن صادرات بلادها من المواد العسكرية ارتفعت إلى الضعف بفضل صفقات التسليح مع دول مثل السعودية والإمارات. وبعد عامين، تزامناً مع بدء العدوان على اليمن، تعمّقت العلاقات العسكرية بين مدريد والرياض، إذ اشترت الأخيرة من الأولى أسلحة بأكثر من 500 مليون يورو ذلك العام. وفي الأشهر الماضية، بدأ السلاح الإسباني يظهر في الميدان اليمني. ففي 8 كانون الثاني/ يناير 2017، عرض موقع «Yemen Fights Back»، صوراً لقاذفة قنابل من طراز «C90»، من تصنيع شركة «إنستالازا» الإسبانية، وذلك من بين البنادق الآلية والذخائر والوثائق الشخصية التي تركها المرتزقة السعوديون في محافظة الطوال على الحدود اليمنية ـــ السعودية. وبعد أسبوع، كشف الموقع نفسه عن قاذفتين من الطراز عينه في المنطقة الحدودية. وبعد نحو شهر، تمّ تداول فيديو على مواقع التواصل يظهر فيه عناصر من حركة «أنصار الله» في مديرية ميدي اليمنية، بالقرب من البحر الأحمر، وهم يحتفلون باستيلائهم على سيارة BMR-600، وهي مركبة عسكرية من تصنيع شركة «إناسا» الإسبانية.
في المقابل، تتّسع «الشراكة الاستراتيجية» بين البلدين اللذين يجمعهما العديد من الاتفاقات الثنائية، خاصةً الاقتصادية، ما جعل إسبانيا تحتل المركز الثالث بين الدول الأوروبية المستوردة من السعودية.