ريف الحسكة | «قتلونا وهجّرونا، لا يريدون للآشوريين أن يبقوا في أرضهم» تقول أم نينوس لـ«الأخبار». لا تجدُ ابنة قرية تل بالوعة (ريف الحسكة الغربي) بدّاً من تذكّر الأيام الخوالي «كنا نعيش بألف نعمة: القرى عامرة بالخير، وكل شيء كان جميلاً ونحو الأفضل»، لتضيف في عزيمة يخالطُها الأمل «سنبقى في هذه الأرض، ونعيد الحياة إلى قرانا جميعها». الحسرة الحاضرة في حديث أم نينوس تبدو انعكاساً طبيعيّاً لحالة الوجوم التي تخيّم على القرى الآشوريّة اليوم، بعدما خلا معظمها من السكّان. تتموضع القرى الآشوريّة على ضفاف نهر الخابور، ويبلغ عددها 33 قرية. ولطالما شكّلت تلك القرى علامات فارقةً في الجزيرة السوريّة، وفرض أبناؤها حضورهم عبر إسهامات اقتصادية واجتماعية في المجتمع السوري لقرون. كان تعداد السكّان الآشوريين قبل الحرب يتجاوز حاجز الثلاثين ألفاً، يقطنون أراضي عالية الخصوبة وتشتهر بزراعة القمح والعنب والتفاح، وإنتاج الألبان الفاخرة. بدأت وتيرة رحيل الآشوريين بالتزايد مع سيطرة «جبهة النصرة» على «جبل عبد العزيز» المطلّ على قراهم، ووصلت ذروتها في شباط 2014 مع المجازر التي نفّذها تنظيم «داعش» المتطرف بحقّهم، وكانت حصيلتها عشرات الشهداء والجرحى والمختطفين، وتهجير السكّان بأكملهم. تفرّق قسم من هؤلاء بين السويد وأوستراليا وألمانيا ولبنان، فيما فرّ قسم نحو الحسكة أو مدن الداخل والساحل، وتقع القرى اليوم ضمن مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطيّة».
عودة خجولة
ظلّت الخُضرة هي السمة الأبرز للقرى الآشوريّة حتى الآن، لكنّ الوحشة المهيمنة عليها تُخلّف إحساساً بأنّ «داعش» لم يغادر بعد. وحدها قرى تل بالوعة، وتل طال، وتل سكرى، وأم غرقان، استقبلت أخيراً بعض أبنائها الذين كانوا قد نزحوا داخل البلاد، ورُمّمت فيها بعض الكنائس المدمّرة. أقيمت الصلوات وقُرعت الأجراس في قريتَي تل بالوعة وتل نصري لأول مرة منذ أكثر من أربعة أعوام، وشهدت القريتان احتفالات بعيد القديس مار شمعون، وعيد السيدة العذراء. تقول سلوى عزيز، من قرية تل مخاض، «رجعنا كي نعيد الحياة إلى قرانا، ونحافظ على حضارتنا وتراثنا وتقاليدنا». فيما يؤكّد زيا، من قرية تل جزيرة، أن «ما حصل هو مُخطط لتهجير الآشوريين عن أرض آبائهم وأجدادهم»، ويضيف «أتواصل مع المغتربين والمهاجرين، لا أحد منهم مرتاح وهو بعيد عن أرضه. الكل يريد العودة، وينتظر عودة الأمان الكامل». يحثّ الشاب أبناء جلدته على العودة إلى قراهم، ويقول «ليس للآشوريين أرض إلا في هذه البلاد، احفظوا تاريخكم وحضارتكم... وعودوا».
«ليس للآشوريين أرض إلا في هذه البلاد، احفظوا تاريخكم وحضارتكم... وعودوا»



في انتظار الأمان
برغم هجرة السواد الأعظم من الآشوريين، فإن أغلبهم لم يفرّطوا بأملاكهم وأراضيهم ومنازلهم، ولا يزال كثير منهم يديرون مصالحهم التجارية عبر وكلاء ووسطاء. وربما صحّ اعتبار هذا السلوك مؤشراً على أن «العودة» هدفٌ مستقبليّ لمعظم من هاجروا. أما على أرض الواقع، وبرغم تحسن الأحوال الأمنية، واندحار «داعش» عن كامل محافظة الحسكة، فليس هناك ما يبشّر بعودة وازنة حتى الآن. تركت بابل سركيس دراسة اللغة العربيّة في السنة الجامعيّة الأخيرة، وهاجرت إلى لبنان، ومنه إلى أوستراليا. تقول لـ«الأخبار» «عندما تُعيد الدولة السورية سيطرتها على كامل الجغرافيا السورية، سأكون أول العائدين». وتضيف «لا بديل من العودة، نحن هنا ضيوف إلى أن نعود إلى أرضنا ووطننا». توافقها، مرام النصر، الموجودة في أوستراليا منذ سنوات، وتقول «عندما أدرك أنني أستطيع أن أخرج من منزلي وأعود إليه متى أشاء، وأشعر بالأمان المطلق، سأعود حتماً». بدورها، تؤكّد نينورتا أوشانا أنها تتلهف للعودة إلى دراستها الجامعية التي تركتها. وتقول «سأعود حين يصير في وسعي الذهاب إلى أي محافظة بلا أي خوف أو إحساس بالمخاطرة». فيما يرى سركون أن «العودة باتت صعبة. المجتمع يحتاج الى سنوات لإعادة بنائه من جديد والتخلص من رواسب الحرب والعودة إلى ما كان عليه، وربما لن يعود كما كان أبداً».

الكنيسة: عودوا إلى دياركم
صلّى الأب بوغوص إيشايا، راعي كنيسة الآشوريين في تل تمر، مع جموع المحتفلين بعيد القديس مار شمعون. الصلاة أقيمت في كنيسة تل بالوعة المرممة حديثاً، ولا تزال آثار الحرق بادية عليها. وأُتبعت الصلاة بوليمة كبيرة للعائدين والضيوف القادمين من مدينة الحسكة والقرى العربية المجاورة، في طقس كان الأهالي يحيونه كل عام. وعقب مراسم القداس، قال الأب إيشايا لـ«الأخبار» إنّ «ما حصل في هذه القرى كان مؤلماً لكل أهالي الحسكة. الأهالي يحاولون العودة لبناء حيواتهم من جديد». وأضاف «لكنّ العودة تحتاج إلى وقت كي يدرك المغتربون أن الأمان قد عاد (قبلهم)». يختتم إيشايا كلامه، داعياً «كل من هاجر من الآشوريين إلى العودة لأداء واجبه تجاه بلده وقريته وحضارته وتاريخه».