بدت محاولة اغتيال الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو كأنّها استدعاء للانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية واستدعاء آخر لحروب العصابات التي واجهت أثقالها الغليظة. المحاولة بوقائعها وتفاصيلها تفوق الخيال العلمي في شطحاته. أثناء عرض عسكري في العاصمة كاراكاس استهدف مادورو بطائرتين مسيّرتين محملتين بمتفجرات. إحداهما ضلت طريقها بفعل أجهزة التشويش والأخرى ارتطمت بمبنى مجاور. خلّفت الانفجارات فزعاً في المكان وهروباً للجنود المشاركين في العرض العسكري وانقطاعاً في البث التلفزيوني وتساؤلات عن مغزى الحادث وما بعده وتأثيراته على مستقبل الديموقراطية في القارة اللاتينية. حتى الآن لم تستبين خلفيات حادث الاغتيال، ولا كيف خطط له، ولا من موّله، لكن بمواريث التاريخ لا يمكن استبعاد تورط مباشر من الإدارة الأميركية الحالية واليمين المتطرف في فنزويلا ونظام الحكم في كولومبيا، الذي توعد على فترات متقاربة إزاحة حكم مادورو. في سنوات الحرب الباردة أديرت الصراعات المسلحة في الشرق الأوسط تحت خطوط حمراء لا تسمح بانجرار العالم إلى حرب نووية، وكادت القوة الأميركية أن تنفرد بتقرير مصائر القارة اللاتينية وفق مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية من دون أي اعتبار لشعوبها. تقوضت الحقوق هنا وسحقت الإنسانية هناك. كأي فعل، فإن له رد فعل يساويه في القوة ويضاده في الاتجاه. هكذا استدعت الأنظمة الفاشية حرب العصابات في أحراش القارة. كانت الثورة الكوبية نموذجاً لقدرة حرب العصابات على إلحاق الهزيمة بنظم موغلة في تبعيتها وفسادها.قدمت للعالم ثلاث شخصيات كبيرة: قائدها فيدل كاسترو وأيقونتها تشي غيفارا ومسؤولها العسكري راؤول كاسترو الذي استقال أخيراً من الرئاسة اختياراً ليفسح المجال أمام تجديد الدم في بنية دولته المحاصرة. الوسائل الديموقراطية تهيّأت لها ظروف استجدت مكنت اليسار اللاتيني من الوصول إلى السلطة في دول عدة وإغلاق صفحة الاغتيالات السياسية والانقلابات العسكرية وحروب العصابات. جرى تجاوز فعل السلاح إلى طلب الديموقراطية والعدالة الاجتماعية ووحدة القارة وتحررها من الهيمنة الأميركية. كانت تلك نقلة تاريخية أذنت بنهضة اقتصادية في القارة والخروج من التبعية.
لم تكن مصادفة أن يعكس الأدب اللاتيني عمق المعاناة الإنسانية تحت وطأة التهميش والإقصاء والهيمنة. ولا كانت مصادفة أن أغلب إسهامات «نظريات التبعية» التي سادت الجامعات الغربية لسنوات طويلة تعود إلى اقتصاديين لاتينيين، كانوا كبلدانهم وأدبائهم مسكونين بوطأة الانقلابات العسكرية برعاية الاستخبارات الأميركية وما ترتكبه من مجازر دموية، وأحمال النهب المنظم الذي ترتكبه الاحتكارات الدولية بالتعاون مع شبكة فساد داخلية تتحكم في مقاليد السلطة.
أخطر رسائل محاولة الاغتيال الفاشلة في كاراكاس العودة إلى القواعد القديمة: اغتيالات سياسية تمهّد لانقلابات عسكرية وحروب عصابات تنهض لمواجهتها، كأن القارة تستعيد ماضيها وتنفي مستقبلها. باستثناء اغتيال الرئيس التشيلي سلفادور الليندي في ١١ سبتمبر/ أيلول ١٩٧٣ لم تحدث أية استهدافات مماثلة من الجو حتى حادث كاراكاس. في ذلك اليوم البعيد، ووقائعه لا تغادر الذاكرة الإنسانية، قصف القصر الرئاسي في العاصمة سانتياغو قبل اقتحامه، قتل الليندي الذي رفض أن يسلّم نفسه، وهشّم رأسه تقريباً. بشهادة غابرييل غارسيا ماركيز، أحد أبرز الروائيين في التاريخ الإنساني، فإن طيارين أميركيين تولوا قصف القصر الرئاسي بدقة غير متوافرة للطيارين التشيليين، وأن جماعات من الشرطة السرية في دول مجاورة أدخلوا عبر الحدود البوليفية لقتل اللاجئين السياسيين. جرت حملات دهم واعتقالات وعمليات قتل جماعي في استاد سانتياغو وألغيت الديموقراطية بدعم وتمويل شركات احتكارية أميركية وتورط مباشر من إدارة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون ومستشار الأمن القومي في ذلك الوقت هنري كيسنجر، كما هو ثابت ومنشور.
في حادث كاراكاس، نفى مستشار الأمن القومي الأميركي الحالي جون بولتون أية صلة لبلاده به، كما فعل سلفه بأعقاب الانقلاب الدموي في سانتياغو. لمدة ثلاث سنوات جرى التخطيط والتحضير للانقلاب الذي قاده الجنرال أوغستو بينوشيه، جرت خلالها حملات تشهير إعلامية وشراء ولاءات وتحريض الطبقات الأكثر ثراء وإثارة اضطرابات تمهد لإطاحة الرئيس الاشتراكي الليندي. كانت أبرز الشركات الأميركية التي مولته «أي تي تي» العاملة في مجال الاتصالات و«كينو كوت» العاملة في مجال النحاس الذي جري تأميمه. كانت آخر جملة كتبها شاعر تشيلي العظيم بابلو نيرودا قبل أن يتم التخلص منه في ظروف غامضة: «لقد عادوا ليخونوا تشيلي من جديد».

لماذا كراكاس الآن؟
هناك أزمة سياسية متفاقمة وانقسام حاد في فنزويلا بعضها بتمويل أميركي صريح ومباشر وبعضها الآخر يعود إلى سوء الأداء السياسي وعدم القدرة علي بناء توافقات وطنية أوسع. وهناك أزمة اقتصادية مستعصية، نقص مزمن في الأغذية والأدوية والسلع الرئيسية وتراجع في الخدمات العامة كالرعاية الصحية والمياه والكهرباء وتدهور غير مسبوق في نسب التضخم وإجمال الناتج المحلي ـ بحسب التقارير الدولية والصحافية. المثير في الأزمة الاقتصادية أن فنزويلا لديها أكبر احتياط للنفط في العالم مكّنها قبل سنوات من تحسين جودة الحياة فيها ورفع مستويات معيشة مواطنيها. من الأسباب الجوهرية التي تنسب إليها الأزمة الاقتصادية انخفاض أسعار النفط الذي يعتمد الاقتصاد على عوائده بنسبة تتجاوز الـ٩٠٪ في تمويل حركة الأسواق واستيراد الأغذية والمواد الأساسية. ومن الأسباب الجوهرية سوء الأداء الاقتصادي وعدم تنوع مصادر الدخل وتفشي الفساد. بصورة أو أخرى فإن محاولة اغتيال الرئيس مادورو استثمار مزدوج في الأزمتين السياسية والاقتصادية لدفع فنزويلا إلى فوضى واسعة تعود بعدها إلى المربع القديم. على رغم كل الأخطاء التي تنسب إلى تجربته في الحكم فإن الذين خططوا لاغتياله لا تعنيهم الديموقراطية ولا سلامة العملية السياسية بقدر ما تشغلهم عودة كراكاس إلى التبعية واستحلاب مخزونها النفطي. هذه هي الحقيقة بلا رتوش. كيف نجح إذن مادورو في الإبقاء على نظامه الذي ورثه عن راعيه الرئيس الراحل هوغو تشافيز؟
بشهادة منظمة الأغذية والزراعة الدولية «الفاو» فإن أفضل تجربة في العالم لتوزيع الغذاء على الأكثر فقراً وتضرراً هي التجربة الفنزولية. انخفض عدد الذين يعانون من نقص حاد في التغذية إلى أكثر من النصف خلال عقود قليلة. وفّرت تجربة توزيع الغذاء المدعم لنحو ٦٠٪ من السكان القوة الضاربة لنظام الحكم الذي أسسه تشافيز.
كما وفّرت سياساته المناهضة للتبعية الأميركية قاعدة دعم أخرى لدى قطاعات شعبية واسعة وداخل الجيش الفنزويلي نفسه، الذي أعلن دعمه المفتوح لمادورو بعد فشل محاولة الاغتيال. كان ذلك عكس ما جرى في تشيلي.
بأي نظرة من بعيد على كراكاس فإن ما يجري فيها من تفاعلات يدخل في مستقبل القارة ويكشف مدى التفلت الأميركي في إدارة السياسة الدولية، السلام بالقوة في الإقليم، وخسارة للحلفاء في أوروبا واستدعاء للفوضى في أميركا اللاتينية.
* صحافي وكاتب مصري