منذ سقوط نظام العقيد معمّر القذافي، لم تتوقف روسيا عن العمل على الملفّ الليبيّ، لكن جهودها ظلت محدودة النتائج. اليوم، يبدو الصراع الدائر بين فرنسا وإيطاليا حول النفوذ في ليبيا، وتمنّع الولايات المتحدة عن لعب دور فاعل، فرصة جيّدة لتُرفّع موسكو من حضورها. ويمكن فهم تصريح أحمد المسماري (الناطق الرسميّ باسم قوات المشير خليفة حفتر) من زاوية النظر هذه، لكن لا يجب الخلط بين ما يريده خليفة حفتر من روسيا، وبين الدور الفعليّ الذي تريد الأخيرة أن تلعبه في ليبيا. لمن تنحاز روسيا؟
ظاهريّاً، تبدو روسيا منحازة إلى سلطة شرق البلاد ومشروع خليفة حفتر الساعي إلى توحيد ليبيا عسكريّاً. توجد أدلة كثيرة على ذلك، فقد زار حفتر روسيا أكثر من مرّة، والتقى فيها وزيرا الخارجيّة والدفاع، واستقبلته حاملة الطائرات «الأميرال كوزنيتسوف» على سواحل ليبيا. إضافة إلى ذلك، ذهب مستشار عبد الله الثني، رئيس حكومة شرق البلاد غير المعترف بها دوليّاً، إلى موسكو والتقى نائب وزير الخارجيّة الروسيّ، وكان قد سبقه إلى ذلك رئيس البرلمان المنتخب عقيلة صالح.
من الناحية العسكريّة، تتسرّب أخبار منذ أعوام عن دعم تقدّمه موسكو إلى قوات حفتر. تلك الأخبار شملت تقديم قطع غيار عسكريّة ومشورة فنيّة، وهو أمر برّره أحمد المسماري سابقاً بأنّه في إطار اتفاقيات منذ عهد القذافي، وهي مستمرة ما دام استخدام الأسلحة الروسيّة مستمراً. لكن تأكيدات التعاون الرسميّة لم تتجاوز ذلك، وهي ما دامت عند ذلك الحدّ يمكن اعتبار أنّها تقع خارج دائرة حظر التسليح المفروض على ليبيا، باعتبار أنّ فرنسا وإيطاليا تقدمان أيضاً خدمات مماثلة. أما ما أشيع عن صفقات تسليح فعليّ، فقد كانت جميعها تتم على نحو غير مباشر، عن طريق مصر أساساً، وبأسلحة قادمة من بيلاروسيا أو دول أخرى قريبة من موسكو.
وحتى في حال صحّة تلك الإشاعات، فإنّ ذلك يعني أنّ روسيا لا تريد أن تظهر رسميّاً كمُسلّح لخليفة حفتر، وهي تنفي باستمرار، عن طريق ممثلين رسميّين، تقديمها لدعم عسكريّ لأيّ من أطراف الصراع في ليبيا. أكثر من ذلك، أكد رئيس مجموعة الاتصال الروسيّة حول التسوية في ليبيا، ليف دينغوف، وهي مجموعة تتبع مجلس الدوما ووزارة الخارجيّة، إنّه «من المهم للغاية عدم ارتكاب خطأ في مسألة حظر الأسلحة، لذلك ليس الوقت مناسباً اليوم للحديث عن خطوات محدّدة لرفع الحظر المفروض على الأسلحة»، وقد ربطت روسيا أخيراً بين الدفع لرفع حظر التسليح وبين توحيد المؤسسة العسكريّة (تحتضن مصر منذ أعوام نقاشات في هذا الصدد لكن تعطّلت في الفترة الماضية).
تصريحات المسماري هي محاولة لكبح الاندفاع الإيطاليّ


من الجانب السياسيّ، واستكمالاً لنصف الصورة، من المهمّ الإشارة إلى استقبال موسكو بقيّة أطراف النزاع في ليبيا وفتحها قنوات تواصل معها. ومن ذلك استقبال رئيس المجلس الرئاسيّ لحكومة الوفاق الوطنيّ المتركزة في طرابلس، فائز السراج، رفقة وفد مصاحب له شمل وزير خارجيّته العام الماضي، واستقبال وفد من مدينة مصراتة شمل سياسيّين وقادة عسكريّين من عمليّة «البنيان المرصوص» التي أطلقت قبل عامين لقتال تنظيم «داعش» في مدينة سرت.
ويبدو أنّ هذه اللقاءات قد أوضحت طبيعة الدور الذي تريد روسيا أن تلعبه في ليبيا، حيث قالت الناطقة باسم وزارة الخارجيّة ماريا زاخاروفا العام الماضي إنّ الضجّة المحيطة بالاتصالات مع حفتر «تشوّه الصورة الحقيقيّة للخطوات التي تتخذها موسكو من أجل المساهمة في تسوية الوضع». كذلك أفادت اللقاءات، بحسب ما أدلى به أعضاء وفد مدينة مصراتة عقب عودتهم إلى ليبيا، في توضيح الأوضاع الميدانيّة وموازين القوى «التي لم تكن واضحة للقطب الثاني في العالم»، وأنّهم «سيستمرون في التواصل معهم في المستقبل».
توظيف روسيا؟
على رغم محاولة روسيا جمع كلّ من حفتر والسراج معاً عقب لقائهما المنعقد في باريس، أو ما يعرف بقمّة «باريس1»، العام الماضي، إلّا أنّ ذلك لم يحصل، حيث وصل حفتر وأعلن انسحابه من الاتفاقات الباريسيّة، ثم وصل السراج في فترة لاحقة. استمر بعد ذلك العجز الروسيّ عن لعب دور فعال في الملفّ الليبيّ، حيث جاء الحلّ بعد عودة التوتّر بين حفتر والسراج من فرنسا مرّة أخرى، وعُقدت قمّة «باريس 2» نهاية شهر أيار هذا العام.
ويعود هذا العجز في جزء كبير منه إلى أنّ الترتيبات في ليبيا التي أفضت إلى توقيع «اتفاق الصخيرات» السياسيّ نهاية 2015، وتركيز حكومة الوفاق الوطنيّ، كانت بدعم أوروبيّ وأميركيّ، من دون دور روسيّ يذكر. يعني ذلك وجود توافق أوروبيّ أميركيّ على تحييد موسكو من الملفّ الليبيّ، وتنتشر في الإعلام الغربيّ تحذيرات من تفاقم الحضور الروسي في ليبيا، وإحالات تُذكّر بمشاريعها هناك خلال فترة حكم القذافي. وترتبط المشاريع التي يخشى الغربيّون إحيائها باتفاق يعود إلى عام 2008 لإقامة قاعدة بحريّة روسيّة في مدينة بنغازي، وصفقات تسليح تقارب قيمتها 2 مليار دولار، إضافة إلى صفقة لمدّ سكة حديديّة بين شرق البلاد وغربها، ومشاريع طاقة مشتركة.
هكذا تتوضّح غايات خليفة حفتر من خلال تصريح الناطق باسم قواته، فهو يرى أنّه يمكن توظيف العُزلة الروسيّة في ليبيا لمصلحته. الأمر بالنسبة لحفتر يرتبط بمشروعه في توحيد البلاد عسكريّاً، ومن ثم انتظار «تفويض من الشعب» ليحكم البلاد، كما عبّر عن ذلك في حوار أخير مع مجلة «الأهرام العربيّ»، لكن المشكلة هي افتقاره إلى داعم دوليّ (على رغم وجود داعمين إقليميّين هم أساساً مصر والإمارات)، يمكّنه من السلاح والدعم السياسيّ بما يوازن الكفة مع الضغط الغربيّ.
خلال حديث مع «الأخبار»، يرى الباحث الليبيّ بشير الزواوي أنّ تصريحات المسماري تأتي في «سياق منطقيّ، لمحاولة كبح الاندفاع الإيطاليّ وتعويض التراجع النسبيّ لفرنسا (التي تدعم حفتر في حدود معيّنة) وزيادة النفوذ الأميركيّ عبر ستيفاني وليامز (كانت القائمة بالأعمال في السفارة الأميركيّة بليبيا إلى حدّ تعيينها بداية الشهر الماضي نائبة للمبعوث الخاصّ للأمم المتحدة غسان سلامة)». ويرى الزواوي أنّ حفتر يبحث عن «من يعيد آلة الحرب للعمل من جديد -وذلك أيضاً خيار إماراتيّ لاستئصال الإخوان المسلمين- وهو يأمل أن توجه حاملة الطائرات الروسيّة ضربات لمصراتة ومحيط طرابلس، لكنّ ذلك أمر مستبعد».