عبد الرحمن جاسمالمخيم: فلسطين الصغيرة، المكان الذين لا يعرفُ كثير منا فلسطين غيرها. لا يمكنك أن تعرف ما هو المخيّم إذا لم تكن فلسطينياً. ادّعِ ما شئت، وقل إنك تفهم مشاعر الفلسطينيين، لكن في هذه لا يمكنك أبداً أن تدرك ما يعنيه أن تكون فلسطينياً من المخيم؛ فالمخيم أشبه ببيوت الشخصية الخيالية التي رسمها الكاتب الإنكليزي الشهير جون رونالد تولكين «الهوبيت»: «هي بيوتٌ فيها من كل شيء، ولكل شيء، تبعث على السعادة والطمأنينة أينما حل المرء في ضيافتها». ستقولون إن هذه مبالغة، وإن المخيّم لم يكن يوماً هكذا. ذلك شأنكم. المخيم كان لكثيرين منا، هكذا!

وسؤالكم بحد ذاته هو ما يفسّر اختلافكم عنّا. حينما وجد المخيم، لم يكن قطّ أرضاً دائمة، ولا منزلاً ثابتاً، مع مرور السنين تغيّر الأمر، وولدنا، أجل جئنا ولم يرَ معظمنا فلسطين، باتت فلسطين، وذاكرتها وكل فضاءاتها هي هذه الشوارع الضيقة التي تختزن كل شيء: هنا تستطيع التحدث بلهجة أهل بلادك دون أي سخرية أو هزء، ودون حتى إجبارك على ليّ لسانك بلهجات الآخرين كي تصبح مقبولاً ومحبباً! هنا يعرفك الجميع، ويعرفون أهلك، وقريتك، ولا تحتاج – أبداً – لإخبار الآخرين بأنك لا تذهب يومياً على القدمين إلى فلسطين، بينما تدرس في جامعات لبنان (أو سواه من الدول العربية). هنا كنت تعرف أن جميع من حولك يشكّلون نواةً لمجتمعٍ فلسطيني حقيقي، هو الأقرب – وإن كان خلبياً – لفلسطين الحقيقية التي لا تعرف عنها شيئاً سوى ما يخبرك به الأكبر سناً، الذين قل عددهم إلى درجة الحلم! ظل المخيم للعائدين استكمالاً لعودتهم، ثوبهم الوحيد أمام عريهم، ودرعهم الأخيرة أمام أعدائهم المتربصين كل الوقت! لم يشعر الفلسطينيون قطّ بأنهم محبوبون. فالترحيب والحفاوة التي استقبلوا بها حال خروجهم من بلادهم كانت «أصيلة»، ولم يكن فيها من العروبة أيُ شيء! فكان كل ما عرفناه عن مروءة العرب وشهامتهم «خيالاً في خيال» وضرباً من المستحيل (ولا ريب أن النازحين السوريين اليوم – كما الفلسطينيون من مخيمات سوريا – يعرفون ما أتحدّث عنه تماماً وبدقة). استقبلنا أول ما خرجنا بخيامٍ وبقلة احترامٍ (عالية)، عوملنا أقل من الحيوانات، وضعنا في خيامٍ في ظروفٍ أقل من إنسانية. وبالتأكيد كان مستغرباً من «إخوتنا» (العرب جميعهم) أن ننشئ مساكن نرتاح فيها أو أن نحمل السلاح في ما بعد! فلماذا نحمل السلاح؟ ولماذا نحتاجه، فهم سيعيدون إلينا فلسطين! هكذا قالوا لنا! لكنها لم تعد. وجيوشهم الجرارة فشلت عند أول اختبارٍ حقيقيٍ لها (وإن دفع فتيتها ثمن عروبتهم ووطنيتهم على أرض فلسطين، حيث يكفي فقط أن تعلم بأن الكتيبة العراقية التي قاتلت في أرض فلسطين جاءها أمرٌ بالرحيل، فآثر مقاتلوها أن يقاتلوا حتى آخر رمق، فدفنوا جميعاً هناك). كثيرون لا يعرفون أبداً عن هذا الجزء المنسي من التاريخ، قبل أن يحمل الفلسطيني السلاح: ركب الجميع على ظهورنا! استعملونا كأقل من عبيد، لم يبقَ تاجرٌ ولا فاجرٌ إلا استعملنا كمطيةٍ لأحلامه، ولطالما استغل الأغنياء فقراء الناس، فلِمَ نلومهم ونحن كنا الأفقر؟ المشكلة لم تكن في أغنياء المجتمعات العربية، المشكلة في فقرائهم، لقد اعتبروا أننا ننافسهم على الفتات، فكرهونا أكثر مما كرهنا أغنيائهم! ازدادت العنصرية، فازداد انغلاق الفلسطيني وانكماشه على نفسه. ازداد الجوع، فازداد الغضب. حصلت أول جريمة «جوع» وتبعتها أخرى (يشبه ما أقوله هنا ما يحدث وسيحدث في مخيمات النازحين السوريين الحالية، مع فارق أن للسوري أفقاً للعودة، لكنه لم يوجد للفلسطيني)، وازداد القمع. أعلنت الأحكام العرفية على المخيمات إثر إنشائها: تطفئ الأضواء عند الساعة الثامنة، ممنوعٌ وجود أي فلسطيني في شوارع القرى «العربية» بعد غياب الشمس، ومن يقبض عليه هناك يوضع السجن، ومنع الاختلاط بين نسائهم وشبابنا، ممنوعٌ وممنوعٌ. المخيم كان الحصن الوحيد والأخير! كان المكان الوحيد الذي يستطيع الفلسطيني فيه التنفس! كثيرون لم يعرفوا مخيم اليرموك مثلما عرفناه. المخيم كان إمارةً مستقلة، كإمارة موناكو، تلك يعرفها الجميع بالتأكيد. فالكازينوهات والعري وسباقات الفورمولا واحد كثيرة الشهرة. لكن من قال إن المخيم لم يحظَ بنفس الشهرة؟ كان اليرموك منارةً بالنسبة إلى الفلسطينيين في سوريا. المخيم الأكبر، الأكثر رحابةً، الأكثر نجومية، كان كالعاصمة بالنسبة إلى العائدين في سوريا (يستطيع سياسيو الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية تسمية الفلسطينيين ما يشاؤون (لاجئين، شتات، ضاربي طبول) لكننا نعرف أن اسمنا هو عائدون، لا لشيء إلا لأننا سنعود، وهو أمرٌ حتمي، بينما هم – بحكم اختياراتهم العقلية – لن يعودوا).
كانت تلك العاصمة الفلسطينية تشكّل عماد كل شيء، فإذا كنت فلسطينياً من أقاصي الأرض، فلا بد لك من زيارة «اليرموك» إذا كنت في سوريا، فإذا لم تفعل، فستسمع سؤالاً من قبيل: رحت اليرموك؟ فإذا ما كانت إجابتك نفياً، كانت الابتسامة والجواب: لم ترَ شيئاً إذاً. طبق الفول، الفلافل، مدارس الأونروا، الجامع، مكاتب التنظيمات، الصراخ الدائم في الصباح، الذي لا تعرف له معنىً أو هدفاً، الشتم بلهجةٍ فلسطينية، النوادي الرياضية الأهلية ذات الأسماء القروية الممحوّة، شخصياتٌ فلسطينية «فولكلورية» لن تراها في أماكن أخرى، كيف يمكن تلك ألّا تكون صورةً عن فلسطين كما نعرفها نحن: العائدون سكان المخيمات! بماذا كان يختلف اليرموك في ذاكرة الناس عن فلسطين؟
دُمِّرَ المخيم، وكل ما يقال في وسائل الإعلام: دُمِّرَ المخيم! ولو لم يكن هناك جوعى يموتون كل يومٍ فيه لما سمعنا ذكراً له في أي مكان. سمعنا التخوين في كل لحظة، اللذة في الأمر أننا خونة دائماً، فأشقاؤنا العرب لا يحتاجون لإيجاد سببٍ لتخويننا أو لتذكيرنا الدائم بأنهم يروننا هكذا. فحتى اليسار وحركات المقاومة لا تحتاج لأن تفعل شيئاً هنا: جمهورها جاهزٌ للفعل! يصلبُ الفلسطيني المستعد دائماً للصعود على صليبه. عائدٌ لا يمتلك في هذه الدنيا إلا هذا المخيم، وكثيرٌ من كراهية تدور حوله، ماذا يمكنه أن يفعل؟ يأخذ منها حتى ينفق.
يكره الفلسطيني كل شيء، وسلوك الآخرين حوله لا يدفعه إلا لكراهيتهم أكثر، فهم إن أعطوا يظلون حاملين «ناقوس» التذكير: لقد استضفناك، أنتَ ضيفٌ ثقيل، نحن «نصرف» عليك، أنتَ حثالةٌ بشرية، أنت قاذورات، أنتم كلكم نفايات! والعائد يسمع كل هذا، ولا يبتسم ولأنه جالسٌ بالانتظار، يحفظ ويسجّل كقنبلةٍ موقوتة. المضحك في الأمر هو المبكي ذاته: ستنفجر تلك القنبلة في لحظةٍ ما، سيهرع أمنيون حقراء لاعتقالنا والقضاء علينا على عجلٍ، وسيهرع مثقفون كذبة لتبرير الأمر، ويبرر الأمر، وستغضب ذاكرتنا أكثر، وسنحفظ ما حدث، وستظل عيوننا مفتوحة، حتى ولو كنا جثةً هامدة: ننظر إليكم وننظر وننظر وننظر، وننظر!
نصيحةٌ أخيرة: حاذروا مما حدث في نهر البارد وما يحدث اليوم في اليرموك. هذه خياراتكم، فلا يلومنّنا أحدٌ على خياراتنا بعدها!

*المقال شخصي بحت، لكنه بالتأكيد عبارة عن جولةٍ دقيقة في ما يدور في عقول العائدين في علاقاتهم مع مخيماتهم




أُدخلت أول من أمس 200 عينة إغاثية إلى مخيم اليرموك. الوصول إلى المحاصرين كان مستحيلاً، وذلك بسبب الدمار الذي لحق بأبنية المخيم. هذه المرة اختارت منظمة التحرير الدخول من الباب الرئيسي للمخيم عبر شارع راما. أدخل المتطوعون الإعانات سيراً على الأقدام. وفي اتصال مع «الأخبار»، قال السفير الفلسطيني في سوريا أنور عبد الهادي، إن «توزيع المساعدات سيستمر في الأيام المقبلة، وستصل هذه المساعدات إلى 7 آلاف عائلة». أضاف: «أخرجنا 50 حالة إنسانية من المخيم، على أن تُخرَج 560 حالة أخرى». يذكر أن هذه المساعدات تكفي لمدة 20 يوماً. وقال عبد الهادي إن «السلطات السورية أمرت عناصرها بعدم الرد على مصادر إطلاق النار حتى لو تعرضت للقصف، وذلك للسماح لنا بإيصال المساعدات». يذكر أن المنظمة نجحت أمس أيضاً في إيصال 400 عيّنة إغاثية إلى سكان المخيم، على أن يستمر توزيع هذه المساعدات في الأيام المقبلة.