لا تعني زيارات بنيامين نتنياهو المتكررة إلى موسكو، الثالثة خلال أقل من ستة أشهر، وتحت العناوين الإيرانية والسورية نفسها، أن لديه أدوات خاصة قادرة على اجتراح العجائب في العاصمة الروسية، ولا حتى وسائل ضغط قادرة على إقناع الرئيس الروسي، بتبنّي خيار تل أبيب بإخراج إيران وحلفائها من سوريا. بل يعود ذلك، بالدرجة الأولى، إلى أنّه لا يوجد بين يديه خيار بديل أقل كلفة من هذا المسار. وهو ما اجترحته القيادة الإسرائيلية بعدما ضاقت خياراتها في أعقاب انتصار الجيش السوري وحلفائه على الجماعات الإرهابية في محاولة لتفادي السيناريو الأسوأ.فلا تل أبيب قادرة على التسليم والتكيّف مع مفاعيل انتصار محور المقاومة في سوريا، وتدرك أيضاً أن أي خيار دراماتيكي عدواني واسع بهدف إحداث تغيير جذري في المشهد السوري سيؤدي إلى جبي أثمان هائلة من العمق الإسرائيلي، فضلاً عن تداعياته التي قد لا تستطيع تل أبيب التحكم بمآلاتها. والمشكلة أيضاً بالنسبة لتل أبيب أن مفاعيل انتصار الجيش السوري وحلفائه ستكون له – بحسب تقدير المؤسستين السياسية والعسكرية الإسرائيلية – مفاعيل دراماتيكية على المديين المتوسط والبعيد كونه سيؤدي، بحسب المعلومات والتقديرات الاستخبارية والسياسية، إلى إنتاج معادلة إقليمية تقيّد الدور الوظيفي للكيان الإسرائيلي، وتُطبِق الخناق على صانع القرار السياسي والمؤسسة العسكرية والجبهة الداخلية.
في المقابل، ترى المؤسسة الإسرائيلية أن هناك أرضية ما تسمح بالرهان على أن توالي التطورات والمحادثات قد يؤدي لاحقاً إلى إحداث تحوّل ما في الموقف الروسي العام، بغض النظر عن المستوى الذي يمكن أن يبلغه وما قد يترتّب عليه من نتائج عملية. وتنتهج إسرائيل لهذه الغاية، خياراً مركّباً من مسارين، عملاني عدواني، وسياسي ديبلوماسي، عبر بوابتي موسكو وواشنطن.
قبيل إقلاع طائرته، أجمل نتنياهو جدول أعمال زيارته إلى موسكو بالقول إنه سيناقش مع الرئيس الروسي، سوريا وإيران وحاجات إسرائيل الأمنية. لكن يبدو أن التشكيك بجدوى هذا المسار، يزداد اتساعاً في وعي العديد من الخبراء والمعلقين الإسرائيليين، ولا يوجد ما يدفع إلى استبعاد أن يكون ذلك حاضراً بقوة في مؤسسات القرار نفسها، ولكن لا يتم حتى الآن تظهيرها إلى العلن. في الموازاة، يبدو أن الطائرة من دون طيار السورية، التي اخترقت أجواء فلسطين المحتلة بعمق نحو 10 كلم، رافقت نتنياهو إلى موسكو، حيث حضرت معه اللقاء مع بوتين، مؤكداً له أن إسرائيل «ستحبط أي محاولة لاختراق سيادتنا، في البر والجو». وشدد رئيس الوزراء الإسرائيلي على أن محور المحادثات يتركز على ما يجري في سوريا وإيران، موضحاً في بداية اللقاء: «رأينا معروف أن إيران ينبغي أن تترك سوريا، وهذا ليس جديداً بالنسبة لك». في المقابل، لفت بوتين لضيفه إلى أن «العلاقات العسكرية بين روسيا وإسرائيل، تتطور في شكل إيجابي».
في كل الأحوال، الواضح أن هناك مقداراً من التفاعل بين الاعتداءات الإسرائيلية في الساحة السورية، وبين اللقاءات مع الرئيس الروسي، فكلما تضاءلت احتمالات التوصل إلى نتائج مرضية من خلال الاتصالات السياسية، تجد إسرائيل نفسها ملزمة بالخيار العسكري. وتحاول أيضاً استغلال الضربات العسكرية على طاولة المحادثات في موسكو، كجزء من التهويل بأن استمرارها وتصاعدها قد يؤديان إلى تدحرج نحو مواجهة واسعة، لا تريده موسكو بل ويتعارض مع مصالحها، وهو ما يشكل أحد الرهانات الإسرائيلية في إقناع موسكو. لكن مشكلة تل أبيب أن الطرف الروسي والآخرين، يدركون خشية إسرائيل من هذه المواجهة الكبرى التي تسعى لتجنبها، كما يسعى الآخرون في المقابل إلى تجنبها. أضف إلى أن مساحة التلاقي بين موسكو وطهران ليست عَرَضية في الساحة السورية، فكل من الطرفين يجد في الآخر عامل قوة إضافياً له، في مواجهة التهديدات الإرهابية والأميركية في الساحة السورية. وما يعزز هذا التحالف أيضاً، أن نطاق التعاون الإيراني - الروسي يتجاوز الساحة السورية، على قاعدة مواجهة التهديد والضغوط التي تمارسها إدارة دونالد ترامب. وقبل كل ذلك، هناك توجه القيادة السورية التي تتمسك بعلاقاتها الاستراتيجية مع الطرفين الروسي والإيراني وبقية أطراف محور المقاومة.
في ظل هذا الانسداد، وكمحاولة للخروج من النفق الذي وجدت تل أبيب نفسها أمامه، نقلت صحيفة «هآرتس»، استناداً إلى مجلة «نيويوركر» الأميركي، أن السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل قدمت للرئيس الأميركي دونالد ترامب اقتراحاً ينطوي على معادلة تقضي بإلغاء الولايات المتحدة العقوبات التي فرضتها على روسيا قبل 4 سنوات في أعقاب الحرب في أوكرانيا واحتلال شبه جزيرة القرم، وفي المقابل تعمل روسيا على إخراج القوات الإيرانية من سورية. لكن المجلة الأميركية تساءلت ما إن كان ترامب مستعداً لعقد صفقة من هذا النوع؟ ورأت نقلاً عن مصادر أنه حتى لو كان ترامب يرغب كثيراً في ذلك، فإن روسيا غير قادرة على تأمين البضاعة. إضافة إلى أن مجرد طرح الفكرة الآن، يمكن أن يضر بدفاعه في الوقت الذي يتعرض للتحقيق بسبب علاقاته بروسيا قبل الانتخابات.
في هذه الأجواء، تأتي زيارة نتنياهو إلى العاصمة الروسية ضمن إطار الاتصالات السياسية، التي يتمسك بمواصلتها. ومع أنه لا يُتوقع أن يصدر عن قمة نتنياهو – بوتين، نتائج تلبي الطموح الإسرائيلي، بخصوص التمركز الإيراني وبقية أطراف محور المقاومة في سوريا، لكن سيتم أيضاً تناول ترتيب الوضع في جنوب سوريا، بهدف تفادي أي احتكاك عسكري مباشر بين جيش العدو والجيش السوري. وهو ما لفت إليه نتنياهو، خلال لقائه مع مبعوثي الرئيس الروسي، ألكساندر لافرينتيف، ونائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين، في القدس، حيث أكد ضرورة «تطبيق اتفاقية فك الاشتباك من عام 1974 بحذافيرها» مشدداً في الوقت نفسه، على أن إسرائيل لن تقبل بأي تموضع إيراني في أي جزء من الأراضي السورية. هذا من دون إغفال النتيجة المكررة في كل لقاء، التأكيد على تعزيز التنسيق بين الجيشين الروسي والإسرائيلي. وفي هذا المجال، كشفت صحيفة هآرتس، أن روسيا أوضحت لإسرائيل في مناسبات عدة أن «أقصى ما يمكنها هو العمل على انسحاب كبير للقوات الإيرانية والميليشيات الدائرة في فلكها ، بمن فيها حزب الله، من الحدود مع إسرائيل في الجولان. لكن ليس في قدرة روسيا إجبار إيران على مغادرة الساحة السورية. وأيضاً حتى وعدها بتحقيق انسحاب جزئي للقوات الإيرانية لم تنجح روسيا في تنفيذه».