تونس | «خرجنا من الحكومة ولم نخرج من الحكم»، مقولة لزعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي، لم تكن موجهة الى الشعب بقدر ما كانت رسالة الى قواعد الحركة الغاضبين. فالوصول الى السلطة بعد سنوات من السجون والمنافي والمطاردات الأمنية والحصار الإعلامي لم يكن هدية للحركة بقدر ما كان «محنة». فجّر امتحان السلطة لدى حركة النهضة الخلافات التي كانت تحت الرماد أثناء سنوات العمل السري، بينما أرهقت السلطة الحركة التي تراجعت شعبيتها وحوّلتها من حركة يقودها رجال «يخافون الله»، الى حركة سياسية تعمل وفق الآليات نفسها التي كان يعمل بها الحزب الحاكم سابقاً.
بعد استقالة حكومة علي العريض، لم يكن جلّ ما خسرته «النهضة» تراجع شعبيتها بعد فوزها بغالبية مقاعد المجلس الوطني التأسيسي، بل إن التداعيات التي يمكن أن يحملها خروجها من الحكم قد يجعل قيادتها فاقدةً للسيطرة عليها بما يهدد الحركة المعروفة بالصلابة التنظيمية بالانشقاقات.
المؤشرات التي برزت الى حد الآن تكشف عن مرحلة جديدة في عمر الحركة، إذ استقال منها قبل الخروج من الحكم ثلاثة قياديين، هم: المتحدث الرسمي الأسبق، نجيب الغربي، المستشار السابق لوزير الخارجية، منار إسكندراني، إضافة الى رياض الشعيبي الذي كان المسؤول الأول عن إعداد المؤتمر السابق للحركة خلال صيف ٢٠١٢، فضلاً عن استقالة أحد المؤسسين، رئيسها السابق، عبد الفتاح مورو، وتجميد أمينها العام حمادي الجبالي، لنشاطه ضمنياً.
وإلى جانب الاستقالات التي شهدتها بعض المناطق، يتوقع أن تتواصل الاستقالات بناءً على مجموعة من المعطيات؛ أهمها اعتزام القياديين المستقيلين الشعيبي واسكندراني، تأسيس حزبين جديدين لا شك أن انتشارهما سيكون بشكل مباشر بين أنصار الحركة. كذلك تسربت معلومات عن صراع محتمل بين العريض والجبالي حول منصب الأمين العام للحركة. يُضاف الى ذلك الصراعات التقليدية بين المنفيين والمساجين الذين لم يغادروا البلاد خلال حكم زين العابدين بن علي، وهو الصراع الذي اصطلح على تسميته الشرعية السجنية وشرعية المنفى، إذ إن مساجين الحركة الذين تولّوا مناصب وزارية مثل الجبالي والعريض، وعبد اللطيف المكي، وعبد الكريم الهاروني، ومنصف بن سالم، الذين قضوا سنوات طويلة في السجن تفوق ١٥ عاماً، وغيرهم ممن لم يتحملوا مناصب وزارية مثل الحبيب اللوز، والصادق شورو، يعتبرون أنفسهم أولى وأقدر على قيادة الحركة من الذين عاشوا في المنافي الأوروبية الوثيرة مثل الغنوشي، وحسين الجزيري، ومحمد بن سالم، وعامر العريض، ولطفي زيتون. ثمة صراع في «النهضة» بين جهة الجنوب الشرقي التي يمثلها العريض، وجهة الساحل التي يمثلها الجبالي. ونتيجة هذه الخلافات، التي كانت مؤجّلة، اضطرت الحركة الى تأجيل الحسم في كل هذه الصراعات ومحاسبة المسؤولين عن المحنة التي عاشتها الحركة بداية من سنة ١٩٩١. كذلك مناقشة التقرير المالي الذي يبدو أنه سيتم تأجيله الى ما بعد الانتخابات.
التداعيات التي ستواجهها الحركة بعد خروجها من الحكم ليست تنظيمية فقط، بل فكرية أيضاً؛ فمن أسباب فشل تجربتها في الحكم خلال عامين عجزها عن الفصل بين طابعها الدعوي وكونها حزباً سياسياً يسعى إلى المشاركة في الحياة السياسية بتبني القيم الجمهورية والديموقراطية.
ومن خلال ردود فعل عدد من قيادييها تجاه عدة قضايا تتصل بالاختلاط وحقوق المرأة وتعدد الزوجات وتطبيق الشريعة وإحياء نظام الأوقاف الإسلامية وتحييد المساجد، يتبيّن أن عدداً كبيراً من قواعد الحركة وحتى عدداً من قيادييها لم يحسموا بعد في هذه القضايا الخلافية.
ولعل أفضل مثال على ذلك دعوة النائب الصادق شورو الى قطع أعضاء الشبان المحتجين، وقيام زميله في المجلس الحبيب اللوز، بتكفير الزعيم اليساري شكري بلعيد الذي اغتيل بعد تلك الحادثة بأيام، وكذلك تكفير القيادي في الجبهة الشعبية منجي الرحوي قبل أيام.
وتدل مثل هذه المواقف والتصريحات لقياديين تاريخيين للحركة على أنها تحتاج إلى مراجعات كثيرة حتى تتلاءم مع المشهد الثقافي التونسي.
هذه التجربة الفاشلة في الحكم بكل المقاييس دفعت عدداً من القياديين الذين انسحبوا منذ سنوات من الحركة، مثل الحبيب الأسود، يعتبرون أن «النهضة» تسرّعت في الحكم الذي لم تكن قادرة عليه، وعدّوا ذلك مغامرة لم تكن مدروسة وستكون لها تبعات خطيرة على مستقبلها. هو موقف مورو نفسه الذي اعتبر أن الحركة لم تكن مهيّأة للحكم الذي كان خطأً فادحاً.
الآن، وقد خرجت «النهضة» من الحكم، سيعود عدد كبير من الوزراء والمحافظين والسفراء ورؤساء البلديات والمديرين العامين والحكام المحليين الى مواقعهم الحزبية بعدما ذاقوا امتيازات السلطة، وهو ما سيخلق مناخاً جديداً من التنافس لم تعتده الحركة طيلة تاريخها. فكيف ستتصرف القيادة، وإلى أي حد سينجح راشد الغنوشي في السيطرة على كل هذه التداعيات واستيعابها؟