يصل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، يوم غد، إلى روسيا للقاء الرئيس فلاديمير بوتين. زيارة ليست الأولى من نوعها، وهي مشهد مكرر لزيارات مشابهة في العامين الماضيين، وإن كانت هذه المرة تأتي عشية بسط سيادة دمشق على جزء كبير من الجنوب السوري.بحسب الإعلان العبري، وعلى لسان نتنياهو نفسه، تُعَدّ هذه الزيارة مهمة جداً في إطار العلاقة بين الجانبين، بما يرتبط بالساحة السورية، مع لاءات ضد أعداء إسرائيل، اعتاد التصريح عنها، وتحديداً ما يتعلق بعدم سماح إسرائيل بـ«التمركز» الإيراني وحزب الله في سوريا.
للزيارة أهمية خاصة هذه المرة، بعد تلاشي آمال إسرائيل في ترسيخ واقع مغاير في الجنوب السوري، عملت عليه وساندته، طوال السنوات الماضية من الحرب السورية. بالطبع تأتي الزيارة فرصةً لتعزيز ما سمّاه نتنياهو التنسيق بين الجانبين، بمعنى منع التصادم بين الجيشين، مع فوائد ترتبط بأصل المحافظة على الاتصال الرفيع وتأكيده. مع ذلك، الزيارة كاشفة جملة حقائق، ينبغي الإشارة إليها:
لا تخفي إسرائيل استسلامها أمام انتصار الرئيس بشار الأسد، وهو ما تقر به بلا مواربة، لكنها معنية بأن تقلص ما أمكنها (ما دامت غير قادرة على إلغاء) تداعيات فشلها هي وحلفائها في الحرب السورية. على هذه الخلفية، تقود حرباً متعددة الجبهات في مرحلة ما بعد الحرب السورية، ومن بينها بطبيعة الحال، رحلات متواصلة إلى الجانب الروسي، علها تستطيع استغلال التباين بين موسكو ودمشق وحلفائهما، رغم أن التجارب السابقة أثبتت عقم الرهان على هذا التباين.
مع ذلك، تسعى تل أبيب إلى جلب الدولة السورية لطاولة مفاوضات، غير مباشرة، عبر الجانب الروسي. مسعى قد يكون مغايراً هذه المرة في الشكل، من بوابة اتفاق فك الاشتباك بين الجيشين، السوري والإسرائيلي، لعام 1974. لكن ما يعترض هذه المحاولة، إدراك الدولة السورية وتيقظها أن لا حاجة إلى الرد على «عروضات» إسرائيل بالعودة إلى بحث اتفاقات مبرمة برعاية وإشراف الأمم المتحدة على الحدود في الجولان. لا حاجة سورية ولا ضرورة، حتى وإن جاءت عبر الحليف الروسي، عملاً بمصالحه الخاصة التي قد لا تتطابق كاملاً مع مصلحة الدولة السورية.
ومطالبة إسرائيل باتفاقية فصل القوات لعام 1974 تحمل في طياتها دفعاً لتعديل بنوده أو إضافة تفسير لبنوده تشمل المصالح الاسرائيلية، مع تحويلها إلى التزام على الدولة السورية مع كل ما فيها من انتقاص للسيادة.
في موازاة كل ذلك، إسرائيل غير قادرة، بمعنى القدرة الفعلية الممكنة، على منع انتصار وبسط سيارة سوريا على أراضيها جنوباً، ومن جهة ثانية أي تغيير في اتفاق فك الاشتباك، والسماح بالإضافة إلى بنوده، وإن من باب تفسير هذه البنود، تفتح بطبيعة الحال شهية إسرائيل على مزيد من «التفسيرات» التي من شأنها المسّ بالسيادة السورية، ولاحقاً شهية أطراف أخرى في شرق وشمال سوريا، على تعديلات وشروط، سوريا في غنى عنها.
والمفارقة هي أن موقف دمشق الثابت، بالامتناع عن إعطاء إسرائيل في مرحلة الانتصار وما بعده، ما لم تسطع الحصول عليه بالحرب عبر حلفائها وأدواتها من الجماعات المسلحة، هو موقف تدركه تل أبيب جيداً، كما تدرك أن ليس في حوزتها، من ناحية فعلية، ما يجبر دمشق على تغيير الثبات في الموقف.
إدراك إسرائيل محدودية القدرة لديها على فرض إرادتها بالقوة العسكرية، يفسّر بدوره، الرحلات الدائمة لنتنياهو وعدد من المسؤولين السياسيين والأمنيين إلى موسكو، علّه يمكّن إسرائيل من استحصال ما أمكن عبر الصديق الروسي، وإن ثبت لدى إسرائيل عبر التجارب السابقة أن آليات خلق التباين بين سوريا وحلفائها تمنع تجاوز التباينات وانتقالها إلى دائرة الخلاف المفضي إلى كسر التحالفات أو اهتزازها.
مع ذلك، ومع هذا الإدراك الذي يترسخ مع كل تطور عسكري وسياسي في الحرب السورية، يواصل المسؤولون الإسرائيليون رحلاتهم إلى موسكو، وفي مقدمتهم نتنياهو نفسه، حتى وإن أدرك مسبقاً نتيجة زيارته، واقتصارها على كونها منبراً لإطلاق المواقف وإعلان الشروط المفتقرة إلى القدرة على تسليكها فعلياً.
عملياً، تبدو تل أبيب في تموضع المستجدي أمام الصديق الروسي لتحقيق ما أمكن من مصالح، على نقيض من الانطباع الذي يحاول نتنياهو تظهيره من خلال مواقفه المعلنة. وهو موقف طبيعي ونتيجة متوقعة لعاملين اثنين، لا يدعان أمام إسرائيل إلا طرق باب الصديق الروسي، وتحصيل ما أمكن منه:
محدودية قدرة إسرائيل الفعلية، بمعنى القدرة على استخدام قوتها العسكرية، أو تأمّل نتائج من التلويح باستخدامها. الخيار العسكري بات متعذراً ضد الدولة السورية، وجرى ترحيله عن طاولة القرار في تل أبيب، لتعذر استخدامه الفعلي.
في الموازاة، ثبت لإسرائيل أن الجانب الأميركي، وإن كان موجوداً في الجغرافيا السورية بالأصالة عنه أو بالوكالة عبر أدواته، غير راغب في تحقيق المصالح الإسرائيلية عبر التورط في معارك وحروب، بل على النقيض من ذلك، هو معني بإيجاد تسوية ما بعيداً عن الخيارات العسكرية، مقابل انسحابه العسكري المباشر من سوريا، وهي نتيجة تشكّك تل أبيب في إمكان التوصل إليها.
العامل الأول، وهو فقدان الخيار العسكري، يدفع تل أبيب إلى التطلع إلى العامل الثاني، علّها عبر الأميركيين تحقق ما لا يمكنها تحقيقه بقدراتها الذاتية، لكن مع فقدان العامل الثاني أيضاً، لم يعد أمام إسرائيل إلا نقل طلباتها تلمساً للصديق الروسي، وإن أدركت أن فرصة تحقيقه مصالحها، منخفضة جداً، خاصة بعد أن تبيّن لها فساد نظرية التابع والمتبوع، بين الدولة السورية وروسيا التي راهنت عليها طويلاً.
سيطلق نتنياهو مواقف في روسيا ويحاول من خلالها تظهير الاقتدار، لكن يبدو أن هذه المحاولة، حتى ما سبق منها، لا تقنع حتى الإسرائيليين أنفسهم. في ذلك تشدد صحيفة «إسرائيل اليوم» على الآتي: «صحيح أن إسرائيل تطالب بإبعادهم، (أي الإيرانيين وحزب الله) عن الحدود في المرحلة الأولى، في الطريق إلى إبعادهم من سوريا، ولكن مطالباتها يردّ عليها في موسكو وفي واشنطن بهزّ الرأس المعبّر عن التعاطف، وليس بالتوافق والالتزام. العكس هو الصحيح. على كل تصريح في مثل هذا الاتجاه يأتي تصريح مضاد؛ فمثلاً، تصريح وزارة الخارجية الروسية الذي قال إن الوجود الإيراني في سوريا شرعي، وليس واقعياً توقع إخلاء قواتها. يبدو إذن أن أحداً لا يريد أو لا يستطيع طرد الإيرانيين، لا من الحدود ولا من سوريا عموماً.