صارت العلاقات الاجتماعيّة في المجتمع الفرنسيّ تكتسي طابعاً إثنيّاً متناميّاً، ومن شواهد ذلك تصاعد جرأة التظاهرات العنصريّة، والتمييز الممنهج والنعوت المُحقّرة في التعامل الإعلاميّ والسياسيّ تجاه الوجود المسلم. ثمّة توجّه لإضفاء طابع جوهريّ على المسلم وربطه بالعربيّ، المهاجر، المنحرف، إضافة إلى التساؤل الدائم حول قدرته على الاندماج وتبني القيم الجمهوريّة، ويدلّ ذلك على عمق التصورات الثقافيّة الاستعماريّة في المخيال الاجتماعيّ للفرنسيّين.وتُختصر العلاقات مع المسلمين، المسجونين داخل غيريّة مطلقة، في الإدارة القمعيّة لجماعتهم التي يُنظر لها على أنّها تمثّل «تهديداً» أمنيّاً وهوياتيّاً في الوقت ذاته. ويحيي تطويق المسلمين والسيطرة عليهم في فرنسا ممارسات النظام الاستعماريّ. يقول المؤرخ الفرنسيّ نيكولا بانسل إنّ «العنصريّة ليست ظاهرة استعماريّة بالمعنى الدقيق»، أي أنّ لها جذوراً بعيدة تمتد لقرون تَشكّل خلالها المخيال الجمعيّ الغربيّ حول الإسلام والمسلمين والعرب، إلاّ أنّ «الاستعمار والثقافة الاستعماريّة أثّرت فيها وتماهت معها وعدلت فيها في شكل كبير».
شهدت الصور السلبيّة والنمطيّة حول العرب والمسلمين، التي تغذّت لقرون عدة على التعارض معهما على أساس دينيّ، إعادة تنشيط على يد المشروع الاستعماريّ الفرنسيّ في الجزائر، حيث عملت الإدارة الاستعماريّة على تطبيق سياسة فسخ شخصيّة وإذابة منظّمة ضدّ اللغة العربيّة والإسلام أحيت روح الحروب الصليبيّة. وقد مثّلت سياسة التبشير في الجزائر جزءاً مهمّاً من الاستراتيجيّة الاستعماريّة في بدايتها.
منذ 1830، سمح أمر صادر عن الملك لويس فيليب بتعيين مرشد في كلّ فرقة، ما سمح للمرشدين الدينيّين بمرافقة الجيش الفرنسيّ في الجزائر. وباعتباره أسقف الجزائر الأوّل، يعتبر أنطوان دوبوش رائد سياسة التبشير إلى درجة تمويله بناء كنائس على نفقته الخاصّة. ويعتبر الكاردينال لافيجري، مؤسس جمعيّة «الآباء البيض»، رأس حربة مشروع الاستيلاء الكاثوليكيّ تحت العين الساهرة للجمهوريّة العلمانية التي تعتبر أنّ «معاداة الكهنوتيّة ليست سلعة للتصدير»، بحسب عبارة ليون غامبيتا.
عزّزت مقاومة الاختراق المسيحيّ والارتباط الآليّ بالثقافة والدين الإسلاميّين العداوة تجاه المسلمين الذين وُصفوا بأنّهم «محمديون متعصّبون». أما الجمهوريّون العلمانيون، الذين زعموا احتكارهم الحضارة، فقد تبنّوا اقتلاع الأهالي من قيمهم التقليديّة و«أعرافهم الظلاميّة». في الواقع، لم تهدف «المهمّة الحضاريّة» جعل الإنسان المحليّ كائناً «متحضراً» متساوياً مع نظيره الأوروبيّ، بل بالأحرى تكييفه من أجل السيطرة عليه واستغلاله في شكل أفضل.
ثمة أرض خصبة يسميها المختصون «العنصريّة ما بعد الاستعماريّة»


ضمن هذا التوجّه ولدت «برقرطة الملة الإسلاميّة»، حيث خلقت السلطة العسكريّة بواسطة مرسوم صدر بتاريخ 11 أيار/ماي 1848 مصلحة خاصّة بالإدارة المدنيّة للأهالي، تهتمّ خاصّة بـ«رقابة وتأمين المساجد، المزارات، الزوايا وأماكن العبادة الأخرى، والتسميات في الوظائف الثانويّة، والاهتمام بجميع مصاريف العمال وصيانة دور العبادة، إلخ». ضُرب بقانون 1905 حول الفصل بين الكنيسة والدولة عرض الحائط في المستعمرات الفرنسيّة، ومن خلال إضفاء طابع إكليروسيّ «توضع ميكانيزمات عتيقة، جامدة، تعمل تحت مراقبة المُضطِهد وتستنسخ على نحو كاريكاتوريّ مؤسسات كانت في يوم ما خصبة» (فرانز فانون).
بعد الاستقلال، جرى دمج هذه الأشكال من المراقبة السياسيّة والاجتماعيّة في إدارة الهجرة ما بعد الاستعماريّة، وبالتحديد تلك المرتبطة بالجالية المسلمة في فرنسا. وفي إطار الاستمراريّة مع التقليد الاستعماريّ، أعادت الدولة الفرنسيّة وضع سياسة مراقبة أمنيّة وسيطرة على الديانة الإسلامية من خلال تأسيس «المجلس الفرنسيّ للديانة الإسلاميّة»، وتبني ترسانة قانونيّة قمعيّة مثل القانون الذي يمنع ارتداء الرموز الواضحة وصولاً إلى القانون «ضدّ البرقع»، مروراً بقوانين مكافحة الإرهاب التي تمأسس التمييز تجاه المسلمين.
يمثّل رسوخ التصوّرات الاستعماريّة وكذلك «صدمة حرب الجزائر»، وفق عبارة الصحافي والكاتب توماس ديلتومب، عاملين هيكليّين يُفسّران الإسلاموفوبيا في فرنسا. وهي إسلاموفوبيا تقيم خلطاً دلاليّاً يشمل «العداء تجاه الأعراق والعداء تجاه الدين»، كما يقول المؤرخ آلان روسيون. وفقاً للأخير، يُفسَّر الخلط بين الانتماء الإثنيّ والانتماء الدينيّ (إلى الإسلام) بحقيقة أنّ «أغلب الفرنسيّين يُطلقون لقب عرب على المستعمَرين من منطقة المغرب وكذلك المسلمين، ما يؤدي إلى نوع من الصُهارة غير المفهومة والمنيعة تمزج بينهما فوبيا واحدة».
في حقيقة الأمر، توجد أرض خصبة يسميها المؤرخون وعلماء الاجتماع «العنصريّة ما بعد الاستعماريّة» ولد فيها «الإسلام المتخيّل» (عنوان كتاب توماس ديلتومب). تلك النسخة المُتخيّلة من الإسلام التي وُلدت إعلاميّاً خلال السبعينات تبلورت في المخيال الاجتماعيّ بفضل اضطرابات جيوسياسيّة كبرى في نهاية ذلك العقد (الثورة الإيرانيّة) وفي الثمانينات (سقوط جدار برلين، انتهاء الثنائيّة القطبيّة)، وتحوّلت إلى هوسٍ جماعيّ بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وبدايات الحرب ضدّ الإرهاب.
أما إعادة التأهيل الثقافيّ لنظرية صدام الحضارات التي تجتاح اليوم جميع مجالات التحليل وفقاً لسعيد بوعمامة، فقد فرضت «حدوداً إثنيّة، ثقافيّة ودينيّة، عوّضت حدود الفترة الماضية التي كانت اجتماعيّة وسياسيّة». وبالنسبة لعالم الاجتماع الجزائريّ، يجب فهم أنّ الوظيفة الاجتماعيّة الرئيسيّة للإسلاموفوبيا هي «إضعاف الاحتجاجات الاجتماعيّة من خلال خلق «عدوّ داخليّ»».