لا تزال تصدر شروحات لكتابات ألكسيس دو توكفيل حول الجزائر، ويطرح التقديس الذي يحظى به هذا المنظّر الليبراليّ، وهو مؤيد شرس للاستعمار وأحد روّاد سياسة الرعب، مفارقة بيّنة بين انتسابه من ناحية إلى أيديولوجيا عقيدتها القاعديّة الفردانيّة والحريّة، وتبنيه من ناحية ثانية فكرة تراتبيّة الأعراق والتفوّق الحضاريّ للغرب التي تبرّر المشروع الاستعماريّ. في واقع الأمر، وعلى غرار توكفيل، تبنّى الكثير من منظِّري الليبراليّة (التيار السائد خلال القرن التاسع عشر) العنصريّة ومعاملة السكان المحليّين على نحو استثنائيّ وممارسة الإرعاب على نطاق واسع.
الجامعيّ الفرنسيّ أوليفييه لوكور غرانميزون

لم يكتف هؤلاء باعتبار التوسّع الاستعماريّ مصدراً ثميناً للتنمية الاقتصاديّة التي تسمح لفرنسا بمزاحمة القوّة الاقتصاديّة العالميّة الأولى المتجسدة في بريطانيا العظمى، بل اعتبروه كذلك أداة لمحاربة القلاقل السياسيّة الداخليّة وتعزيز التماسك السياسيّ الوطنيّ من طريق الغزو والسعي وراء المجد.
في هذه المقابلة مع «الأخبار»، يحلّل الجامعيّ الفرنسيّ أوليفييه لوكور غرانميزون، المختصّ في قضايا المواطنة خلال الثورة الفرنسيّة وفي التاريخ الاستعماريّ، سبب عدم شعور منظِّري ذلك العصر بوجود تناقض «بين مواقفهم الديموقراطيّة أو الجمهوريّة، ومواقفهم الاستعماريّة»

يُنسى أحياناً الرابط بين بعض وجوه التقليد الليبراليّ والاستعمار، حيث يُعَدّ توكفيل مثلاً أحد المنظّرين الأساسيّين لليبراليّة السياسيّة وفي نفس الوقت أحد زعماء «الحزب الاستعماريّ». هل يمكنك تقديم توضيح نظريّ للرابط بين الاستعمار والليبراليّة؟

في ثمانينيات القرن الماضي، أي عندما أُعيد إلى حدٍّ ما اكتشاف عمل توكفيل في فرنسا، انصبّ الاهتمام بشكل رئيسيّ على تحليله للديموقراطيّة والأخطار المحتملة التي تهدّدها. وبشكل غير معهود، أُخفِيَت مناطق كاملة من فكر توكفيل وارتباطاته السياسيّة، أو أبقيت على الأقلّ في الظلّ، والحال أنّ معاصريه يعرفون الأهميّة الكبرى لكتاب «الديموقراطيّة في أميركا» والدور المهمّ الذي لعبه مؤلفه بصفته نائباً برلمانيّاً ومختصاً في المستعمرات، وتحديداً في الجزائر التي زارها مرتين (في عامي 1841 و1846) والتي كرّس لها الكثير من أعماله التي تشمل تقريرين (1847) مهمّين قدّمهما إلى مجلس النواب. إضافة إلى ذلك، وعلى غرار التقريرين، تظهر مراسلاته مع صديقه غوستاف دو بومون تقديره أنّ غزو ثم استعمار إيالة الجزائر أمر لا مناص عنه لاستعادة تأثير فرنسا في أوروبا والعالم، ولتجنّب تأخرها عن غريمتها التي تثير خوفها وإعجابها: بريطانيا العظمى.
هذا الرجل هو في الوقت نفسه ليبراليّ ومنظّر مؤيّد للاستعمار


توكفيل إذاً هو في الوقت نفسه ليبراليّ ومنظّر مؤيّد للاستعمار لأسباب من بينها قدرة وطنه على المنافسة. ونذكّر في الأخير بأنّه ساند في سبيل ذلك مناهج حربيّة مخصوصة، بما أنّه فضّل تدمير الأراضي التي يسيطر عليها الأمير عبد القادر وتخريب المدن والحصاد وصوامع المواد الفلاحيّة. كذلك كان من بين توصياته التي صاغها في أعماله المختلفة حول الجزائر أسر «رجال دون أسلحة، نساء وأطفال». بالنظر إلى هذه النصوص، يحقّ لنا اعتباره أحد مبتكري ما يجب تسميته «الحرب الشاملة»، في مقابل الحرب التي تسمى «مُسطّرة» التي خاضتها الدول ـــ الأمم في القارة العجوز. علاوة على ذلك، لا يجب أن ننسى أنّ توكفيل ناصر أيضاً نوعاً من حالة الاستثناء الدائمة في حقّ «السكان الأصليين» (معنى تحقيري لمصطلح الأهالي) للجزائر بغرض تثبيت النظام الاستعماريّ وإدامته، وهو أمر ضروريّ لتحويل ذلك المجال إلى مستعمرة استيطانيّة. معاملة هؤلاء «السكان الأصليين» على قدم المساواة؟ لم يكن تحوّلهم إلى مواطنين أمراً مطروحاً، بل كانوا «رعايا فرنسيّين» وظلوا كذلك حتى عام 1945. في أفريقيا وغيرها من الأماكن، تحوّلت ليبراليّة توكفيل إلى سياسة سلطويّة وحتى ديكتاتوريّة للسيطرة على «السكان الأصليين» الذين اعتبروا أدنى مرتبة ولكن خطرين.

لماذا عُدَّت بريطانيا نموذجاً للاتباع؟

عُدَّت بريطانيا العظمى نموذجاً للاتباع بسبب تفوّقها في أوروبا والعالم، ذلك أمر معروف لدى جميع المعاصرين المهتمين بالبلد، ويربطون ذلك، من بين أشياء أخرى، بحقيقة كونها في ذلك الوقت القوّة الإمبرياليّة الأكبر في العالم، وهي بذلك غريم خطير على فرنسا التي لم تكن لها إمبراطوريّة وراء البحر بالمعنى الكامل، رغم امتلاكها بعض المستعمرات هنا وهناك. ضمن ذلك السياق العالميّ، رأت فرنسا أنّ إيجاد موطئ قدم لها في الجزائر ثمّ السيطرة على المجال الممتد في شمال أفريقيا يمثّل أداة أساسيّة لاستعادة تأثيرها وافتكاك مكانة مهمّة وسط أمم ذلك الوقت. وبشكل أكثر عموماً وتأخراً أيضاً، تأثّر عدد من المختصين الفرنسيّين في ظلّ الجمهوريّة الثالثة ببعض المناهج الاستعماريّة البريطانيّة، وذلك ما حصل مثلاً في ميداني الطبّ والصحّة الاستوائيّة اللذين قمت بدراستهما في كتابي الأخير «إمبراطوريّة علماء الصحّة. العيش في المستعمرات» (فايار، 2014).

كيف أمكن مناصري الليبراليّة المنظرين لمعاملة استثنائيّة تجاه «السكان الأصليين» مواءمة قيم النزعتين الإنسيّة والكونيّة مع قيم تراتبيّة الأعراق والإرعاب بوصفها أدوات استعماريّة؟

كثيراً ما نظنّ أنّ رجال تلك الحقبة رأوا تناقضاً بين مواقفهم الديموقراطيّة أو الجمهوريّة وبين الاستعمار. تلك نظرة ترتبط بوهم ذي أثر رجعيّ يتمثّل بإلصاق تصورات كونيّة بأولئك الرجال، فيما كان أغلبهم يرفضونها. وقد كانت تلك هي الحال في ظلّ الجمهوريّة الثالثة. يمكن التذكير مثلاً بأنّ جول فيري هو في ذات الوقت جمهوريّ ذائع الصيت واستعماريّ مقتنع تمام الاقتناع، على غرار كثير من معاصريه، بأنّ الجنس البشريّ مُقسّم إلى أعراق متفوّقة وأخرى متدنّية. ووفقاً للعقيدة الإمبرياليّة ـــ الجمهوريّة في ذلك الوقت، يجب على الأعراق المتفوّقة استعمار الأعراق المتدنّية لاقتلاعها من بدائيّتها، وقد تبنى تلك العقيدة أيضاً عدد من المسيّرين الاشتراكيّين في العشرينيات مثل ليون بلوم. لقد كان يوجد إجماع مذهل حول ذلك، تكرّس شيئاً فشيئاً. في ما يتعلّق بالكونيّة المزعومة، المشهورة بكونها خصوصيّة فرنسيّة موروثة عن ثورات 1789، 1792 و1848، فهي ليست أكثر من أسطورة قوميّة ـــ جمهوريّة تسمح بإقامة تمايز، بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى، بين فرنسا وبريطانيا العظمة وإسبانيا خاصّة، وتغذية أسطورة أخرى: وجود استثناء فرنسيّ مرموق.

كيف تؤوّل هذه الخلاصة من تقرير لتوكفيل كتبه في 1847: «جعلنا المجتمع المسلم أكثر بؤساً، أكثر اضطراباً، أكثر جهلاً وأكثر بربريّة مما كان عليه قبل أن يتعرّف إلينا»؟

بعد دعمه مناهج الحرب التي تحدثنا عنها، أدرك توكفيل آثارها المدمرة على المستويات الاقتصاديّة، الاجتماعيّة والسياسيّة. وقد كان بلا شكّ واعيّاً أيضاً بخطر تحوّل الانتصارات العسكريّة التي حققتها فرنسا في الجزائر إلى هزيمة سياسيّة بسبب عداوة «السكان الأصليين»، وهي العبارة المستخدمة حينها، بدل الحديث عن «حضور فرنسيّ» يحظى بكره أكبر من الكره الموجه نحو عمليّة الغزو الفائقة الوحشيّة. ويجب هنا التدقيق في أنّ نقد بعض نتائج الاستعمار لا يتناقض البتّة مع الرغبة في مواصلة نفس النهج باستخدام أدوات أخرى. بقي توكفيل مقتنعاً بأهميّة غزو الجزائر، ولم يجادل قطّ مبدأ الغزو أو ضرورته. وحول هذه النقاط المخصوصة، لم يكن هو الأوّل، ولا الأخير.