يعود تاريخ مبنى «متحف الرقة» إلى عام 1861. بنته القوات العثمانية مخفراً لجنودها، فشكّل النواة الأولى للمدينة التي ظلّت قبلها خراباً قرابة خمسة قرون بعد أن دمرها المغول. بعد انتهاء الاحتلال العثماني أعيد بناؤه خلال حقبة الاحتلال الفرنسي ليكون مقراً لـ«الحاكم الفرنسي»، وفي عهد الاستقلال تحول مقرّاً لقيادة شرطة المدينة. لاحقاً تقرر هدمه، لكنّ «مديرية الآثار والمتاحف» اعترضت على القرار وطلبت ترميمه وتحويله إلى متحف. وبالفعل، افتُتح المتحف عام 1981. بمرور السنوات، لم يعد المبنى يتسع للُّقى والمكتشفات الأثرية بفعل ازدياد البعثات المحلية والدولية التي كانت تنقب في عشرات المواقع والتلال، فبدأت محافظة الرقة تُحضر لبناء أكبر متحف في سوريا، ليكون متحفاً لـ«آثار المنطقة الشرقية» على مساحة 13 ألف متر مربع على ضفاف نهر الفرات. أنجزت وحدة الدراسات الهندسية في جامعة حلب مخطط المبنى، بمشاركة خبراء فرنسيين أشرفوا على التصاميم وطرق العرض في المتحف الذي لم يرَ النور حتى تاريخ سيطرة «جبهة النصرة» وكتائب «الجيش الحر» و«حركة أحرار الشام الإسلامية» على المحافظة وتدمير كل ما هو قائم.
نهب المتحف
تولى «لواء أمناء الرقة» التابع لـ«الجيش الحر» مهمة حماية الدوائر والمؤسسات الحكومية خشية الفوضى التي حدثت عند السيطرة على المدينة في آذار من عام 2013 («الأخبار»، 11 تموز 2015). لكنّ دوره انتهى بعد «مبايعته» لـ«حركة أحرار الشام الإسلامية» التي تعهدت حماية الآثار والحفاظ عليها لكونها «أموال مسلمين» وستبقى «برسم الحركة إلى أن تقوم الدولة الإسلامية»، كما صرَّح أحد قادة «الحركة» آنذاك.
التفت «داعش» إلى الآثار كونها تُشكّل مصدر التمويل الثاني بعد النفط


لم تكن كل التصريحات الإعلامية سوى شعارات رفعتها «أحرار الشام» كي تبعد الشبهات عن نياتها الحقيقية التي اتضحت بعد أشهر. غادر قادة «الحركة» الرقة بعد أن أفرغوا خزائن «المصرف المركزي» بما فيها من الأموال وأهم اللُّقى الأثرية التي نقلتها إدارة المتحف إلى المصرف قبل أشهر من دخول «مسلحي المعارضة» إلى المدينة، خشية السرقة والنهب نتيجة سوء الأوضاع الأمنية.
لم يبقَ في المتحف سوى بعض اللُّقى والجداريات والتوابيت الضخمة التي لا يمكن نقلها بسهولة، بينما سُرقت الحلي الذهبية والفضية والتماثيل والدمى وبعض اللُّقى الخزفية والزجاجية التي تعود إلى مختلف العصور التاريخية. أفرغ عناصر «لواء العزة لله» بقايا المحتويات، وفرزوها وجردوها حسب سجلات المتحف الرسمية، ثم نقلوها في صناديق إلى جهة مجهولة.

«بسطة جزارة»
سيطر «داعش» على المدينة مطلع عام 2014، ولم يجد عناصره في مبنى المتحف سوى بعض الجداريات الفسيفسائية التي لم يتمكن «الثوّار» من انتزاعها. شوّه عناصر التنظيم الجداريّات لأنها تحوي تصاوير لحيوانات كانت تعيش في وادي الفرات كالغزلان والآساد، بحكم أن «التصوير حرام». التفت التنظيم إلى المواقع والتلال الأثرية في المحافظة لأنها تُشكل مصدر التمويل الثاني بعد آبار النفط الخام. وأبدى اهتماماً خاصاً بالمكتشفات الأثرية التي تعود للعصور التاريخية القديمة، خاصة الرومانية والبيزنطية، نتيجة الإقبال العالمي عليها («الأخبار»، 1 تموز 2015). شوهدت عشرات اللُّقى الأثرية من مقتنيات متحف الرقة معروضة للبيع على صفحات التواصل الاجتماعي. تخصصت بعض الصفحات ببيع الآثار السورية المهربة إلى تركيا، واشترى أغلبها تجار أوروبيون، من دون أن تُجدي مناشدة «المديرية العامة للآثار والمتاحف» في سوريا لمنظمة «يونسكو» والإنتربول الدولي. أما مبنى المتحف فقد أغلقه التنظيم، وافتتحت أمام بابه «بسطة» كبيرة لبيع اللحوم. كان الجزار يعلق الذبائح أمام المتحف تحت عريشة من القصب الفراتي، ويبيعها للمواطنين نيئة ومشوية. ليس المتحف فقط ما انتهكت حرمته، انسحب الأمر على «جامع الرافقة» التاريخي (جامع المنصور نسبة إلى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي أمر ببنائه عام 722م) الذي حوّله «داعش» إلى سوق لكشّاشي الحمام بعد أن هدم المقام الموجود داخله، واتخذ «الحميماتية» من باحته «بازاراً» لكشّ الحمام وبيعه.

«إعادة ترميم»؟
تعرض مبنى المتحف لأضرار كبيرة خلال العدوان الأميركي على الرقة قبل عام، فدُمرت نوافذه وبعض أجزائه الداخلية. لاحقاً، قيّمت «لجنة الثقافة» في «مجلس الرقة المدني» التابع لـ«قوات سوريا الديموقراطية» الأضرار الناتجة من العدوان، وقدمت رؤيتها لإعادة ترميم المتحف. في حزيران الماضي، بدأت «منظمة رؤية للأعمال الإنسانية» بترميم بناء المتحف ضمن مبادرة أطلقت عليها «رقتنا حلوة»، على أن تستمر أعمال الترميم شهرين، ومن المتوقع أن تنتهي خلال الشهر القادم. كذلك، أخلت اللجنة موقع جامع الرافقة، وأزالت التعديات، وبدأت العمل على ترميم أسواره وباحته. سيظلّ المتحف خالياً من اللقى الأثرية إلى أن تبدأ البعثات الأثرية عملها في الرقة مجدداً لترفد المتحف بمكتشفات جديدة، أو تتمكن الحكومة السورية من استعادة ما أمكن من آثار الرقة المنهوبة.
يقول الباحث الآثاري الرقّي محمد العزو الذي عاد إلى الرقة أخيراً بعد عام من النزوح نتيجة العدوان الأميركي: «جلست أنظر إلى مبنى المتحف الكئيب بواجهته المحزنة، وأكلم نفسي بصوت مسموع وأقول: آخ لو قمت من قبرك يا سومرست موم، لكتبت ألف قصة وقصة عن الوحشية الرعناء البشعة التي تعرضت لها الرقة الحوراء».