تحوَّل تطوّر النضال الشعبي الفلسطيني إلى مصدر إرباك جدّي للكيان الإسرائيلي، بشقيه السياسي والأمني. فهو ليس قادراً على تجاهل استمراره وتطور أساليبه، وهو يدرك الأثمان السياسية والأمنية لمخاطر التصعيد الذي قد يتطوّر ويؤدي إلى استهداف العمق الإسرائيلي. وتتخوف تل أبيب من أصل استمرار هذا المسار النضالي الذي بدأ يتبلور كمشكلة إسرائيلية حقيقية على المستويين السياسي والأمني في مستوطنات الجنوب. وتتزايد مخاوف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن يؤسِّس استمرار هذا المسار لمزيد من التطور الذي يبدع في كل محطة تكتيكاته التي تلتف على الخطة الإسرائيلية المضادة. وفي هذا السياق، يرتفع منسوب القلق في تل أبيب من الدور الاستنهاضي الذي يؤديه استمرار وسائل النضال وتطورها، للشارع الفلسطيني.بالموازاة، أكثر ما تحضر خطورة مفاعيل هذا الاستنهاض – ولو جزئياً حتى الآن - في وعي وحسابات الأنظمة المطبعة مع الكيان الإسرائيلي، انطلاقاً من أن لغة الدماء تقارع الكلمة والموقف والدعاية والتضليل. ويدركون في الرياض وتل أبيب وواشنطن أن كل قطرة دم تسقط في فلسطين وعلى أسوار غزة، تربك في الواقع مخطط صفقة القرن. وهو ما يُحوِّل قمع المسار النضالي الفلسطيني إلى مطلب ملحّ لدى أرباب هذا المخطط والمتآمرين على القضية الفلسطينية. ويفرض على الكيان الإسرائيلي أيضاً، ومعه كل الذين يخشون على عروشهم من منطق المقاومة والانتفاضة، العمل على إحباط هذا المسار النضالي وقمعه وتطويقه وتشويه صورته.
حتى الآن، استطاعت هذه الدماء والتكتيكات النضالية المتنوعة أن تفرض قضية فلسطين على جدول الاهتمام العام في الداخل والخارج، في مقابل مساعي المتربصين لطمس قضية فلسطين، كي لا تبقى في صدارة المشهد، وحتى لا يبقى شيء اسمه احتلال فلسطين، ولا قضية شعب مشرَّد في كافة أنحاء العالم له حق مثل كل شعوب العالم بالحياة داخل وطنه، ولا حقوق دماء سفكت وما زالت في فلسطين، ولا أسرى يتوقون وتتوق عائلاتهم إلى حريتهم، ولا بيوت مدمرة تحتاج إلى إعادة بنائها من دون مساومة على حساب قضاياه العادلة.
على المستوى الإسرائيلي، بات من الواضح حجم الضغوط التي نجحت تكتيكات الطائرات الورقية الحارقة في فرضها على مستوطني جنوب فلسطين المحتلة، وتحوَّلت إلى كابوس يقضّ مضاجعهم، وتتردد تداعياته على المستوى السياسي تنافساً ومزايدة وإرباكاً.
في المقابل، حاولت إسرائيل فرض معادلة نارية تهدف إلى رفع مستوى تضحيات فصائل المقاومة، من أجل الضغط لكبح استمرار المسار النضالي في غزة وتطوره. لكن من الواضح أن قيادة المقاومة تدرك أن التراجع عن هذا السقف النضالي الشعبي سيعزز لدى تل أبيب الرهان على إمكان إخضاع الشعب الفلسطيني، ويكرس عملياً معادلة تمنع الفلسطيني من أبسط وسائله النضالية التي يحاول من خلالها المحافظة على حضور قضيته وحيويتها في المشهد العام. وترجمت هذا الفهم عبر ردود صاروخية مدروسة وموزونة وهادفة. وهو ما أربك حتى الآن المؤسستين السياسية والأمنية في تل أبيب التي لا تريد الذهاب نحو مواجهة عسكرية واسعة مع القطاع لأسباب متعددة، ولا تستطيع تجاهل المعادلة التي فرضتها الفصائل الفلسطينية. مع ذلك، مع زالت مؤسسة القرار السياسي تدرس وتحاول اجتراح خيارات عملانية، الأمر الذي يستوجب مزيداً من الترقب للخطوات الإسرائيلية التالية.
انطلاقاً من هذه الأجواء، أتت تقديرات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، كما نشرت صحيفة «هآرتس»، بأن حركة «حماس» تستعد لجولة حرب أخرى مع إسرائيل، كحل ممكن للأزمة الإنسانية في قطاع غزة. ومع أنهم يتعمدون تقديم حركة حماس وبقية فصائل المقاومة كما لو أنهم يدفعون نحو مواجهة عسكرية واسعة، والواقع هو غير ذلك على الإطلاق. إذ ترفض فصائل المقاومة محاولة إجبارها على التكيّف مع الواقع القائم المفروض وما يخططون له، وتحاول التحرك بما دون المواجهة العسكرية الواسعة. في مقابل مساعي العدو لحشرها بين التسليم بهذا الواقع، أو تلقي أثمان كبيرة، أو التلويح بعملية عسكرية واسعة تفاقم من معاناة الشعب الفلسطيني.
هذا الإصرار الفصائلي على مواصلة النضال الشعبي الهادف، المدعوم بردع صواريخ المقاومة في مقابل اعتداءات إسرائيلية واسعة، ترى فيه تل أبيب نياتٍ لمواجهة عسكرية واسعة. وفي الحقيقة هو عزم على التصدي للاعتداءات الإسرائيلية بما يتناسب ويحول دون نجاح العدو في فرض معادلاته.
في هذه الأجواء ترتفع الأصوات في تل أبيب، رسمية وإعلامية، تحاول من خلالها التهويل على الفلسطينيين في القطاع كما لو أنها على وشك شنّ حرب واسعة ردّاً على الطائرات الورقية. ومن ضمنها ما نقله معلق الشؤون الأمنية في موقع «يديعوت أحرونوت» رون بن يشاي، بالقول إن تقديرات الجيش الإسرائيلي ترى أن المواجهة في ساحة قطاع غزة وصلت إلى مفترق طرق، وأن سنوات الهدوء الأربع منذ عدوان «الجرف الصامد» في عام 2014 بلغت نهايتها وأننا «نقف الآن عند مفترق طرق ويجب على إسرائيل أن تقرر ما إذا كانت وجهتها نحو التسوية أو نحو الحسم». لكن التسوية التي يقصدونها في تل أبيب ليست عملية «إنسانية ــ ترميمية»، بل سلة متكاملة يساومون فيها سكان القطاع على لقمة العيش وحبة الدواء وأدنى متطلبات الحياة، مقابل «وقف إطلاق نار ثابت وطويل المدى وقيود على التسلح والتعاظم العسكري» لدى فصائل المقاومة. في كل الأحوال، وبالرغم من كل المواقف التهويلية، يدركون في جيش العدو والمجلس الوزاري المصغر، أن أي عملية عسكرية واسعة في القطاع لن تكون نزهة، بعدما ثبت لهم بالتجربة والمعلومات أن الطرف الفلسطيني قادر أيضاً على إلحاق الخسائر الكبيرة بجيش الاحتلال وبالعمق الإسرائيلي بالمستوى الذي يدفع قادته إلى التردد ومحاولة تجنّب هذا الخيار.