لا يوجد موعد محدد تعلن فيه الإدارة الأميركية خطة ما تطلق عليه «صفقة القرن». أرجح التوقعات أن يتم مثل هذا الإعلان من طرف واحد في الخريف المقبل.باستثناء تسريبات إسرائيلية متواترة، بعضها لجس النبض باختبار ردود الفعل المحتملة وبعضها الآخر قيد الشروع الفعلي في تنفيذها، تكاد تغيب حقائق ما يجري في الكواليس الدبلوماسية من اتصالات معلنة وغير معلنة مع دول عربية. ما طبيعة الضغوط الأميركية؟... وما حجم التفاهمات الجارية؟... وأين التباينات بالضبط؟
بصياغة أخرى للأسئلة القلقة: ما مدى استعدادها للانخراط في صفقة تقضي نهائياً ـــ حسب التسريبات الإسرائيلية ـــ على المشروع الوطني الفلسطيني، تفرغه من قضاياه وحقوقه المنصوص عليها في قرارات دولية، وتغير طبيعته من حركة تحرر إلى متلقٍّ للإعانات والمشروعات الإنسانية التي تخفف من الحصار القاسي على غزة؟
كانت تلك الأسئلة الموضوع الحقيقي لجولة صهر الرئيس الأميركي وكبير مستشاريه في الشرق الأوسط جاريد كوشنير، وممثله الخاص جيسون غرينبلات، شملت الأردن ومصر والسعودية وقطر وإسرائيل.
بطبيعة توجهات كوشنير، فهو «ليكودي» أكثر من «الليكود»، يسهل استنتاج أن اجتماعه مرتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أقرب إلى تبادل مستجدات المعلومات والتنسيق في الخطوات التالية على عكس ما قد يكون مارسه من ضغوط في لقاءاته الأخرى.
من جهته، أبدى نتنياهو حماسة بالغة لخلق واقع جديد على الأرض بإعلان الخطة من طرف واحد إذا أصرّت السلطة الفلسطينية على عدم استقبال أي وفد أميركي، على خلفية نقل سفارتهم إلى القدس المحتلة، وهو ما جرى مع كوشنير وغرينبلات، أو عدم الاستجابة لأي تدخلات عربية بإغواء مالي، أو تهديد سياسي بفرض العزلة عليها تمهيداً لعزل رئيسها محمود عباس.
كوشنير أبدى قدراً من التريث انتظاراً لتليين المواقف بالضغوط، إدراكاً أنه لا يمكن أن تكون هناك صفقة ناجحة من دون شريك فلسطيني يوقّع باسم شعبه على التزاماتها المجحفة.
في الوقت ذاته، يدرك بعض القادة العرب، الذين استقبلوا كوشنير وحاوروه من دون أن يفصحوا عمّا طُرح عليهم أو التزموا به أو اختلفوا عليه، أن لا أحد بوسعه أن ينوب عن الفلسطينيين، فهم أصحاب القضية ومفتاح الموقف، وأنه لا يمكن تمرير أيّ صفقة ما لم يوافقوا عليها.
في البيانين المقتضبين اللذين صدرا في عمان والقاهرة، ظلال قلق لا تُخفى، حيث أكدا بصياغة واحدة ـــ تقريباً ـــ «دعم الجهود والمبادرات الدولية الرامية إلى تسوية عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية طبقاً للمرجعيات الدولية وعلى أساس حل الدولتين وفقاً لحدود ١٩٦٧ تكون فيها القدس الشرقية عاصمة لفلسطين»، خشية الوقوع تحت طائلة الاتهامات بالتفريط.
الظلال لا تنير كامل الصورة، لكنها تعطي فكرة عن تعقيدات لا يمكن تجاوزها وألغام مرشحة للانفجار حتى لا تبقي حجراً على حجر.
من الآن إلى الخريف سوف تزداد الضغوط الأميركية لدفع دول عربية حليفة إلى تمويل مشروعات توصف بـ«الإنسانية» في قطاع غزة بحدود مليار دولار/ دعماً للخطة، قبل الكشف عن تفاصيلها واتخاذ مواقف تؤيدها باسم السلام والواقعية ورفع المعاناة عن القطاع المحاصر.
هناك خطان رئيسيان متداخلان في التفكير الاستراتيجي الأميركي الذي يطرح نفسه الآن بقوة الضغوط استثماراً لأوضاع بائسة في العالم العربي.
أولهما، يعمل على تصفية نهائية للقضية الفلسطينية باسم «سلام القوة»، وفق تعبير الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه، يلغي الحق العربي في القدس ويضم الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية للدولة العبرية، ويبقي على غور الأردن تحت السيطرة الإسرائيلية وينزع أي سلاح ثقيل من الدولة الفلسطينية المفترضة.
يلفت الانتباه ـــ حسب التسريبات الإسرائيلية ـــ أن مصمّم الخطة يحاول القفز بالخديعة فوق ملف القدس الملغم حتى يمكنه أن يقول إن البلدة القديمة ضمت وانتهى أمرها، وإن بوسع الفلسطينيين والعرب معهم أن يطلقوا ما شاءوا من أوصاف على عاصمة مقترحة خارج أسوار القدس تضم عدة أحياء وبلدات أهمها أبو ديس. وهذه فكرة قديمة طرحت أثناء مفاوضات أوسلو وما بعدها لتجاوز أزمة القدس.
رغم أن خطة كوشنير تتسق بالكامل مع الرواية الصهيونية وتؤكدها في أدق التفاصيل، إلا أن نتنياهو احتفظ لنفسه مقدماً بحق التحفظ على بعض تفاصيلها، بينها ـــ بطبيعة الحال ـــ مقترح «القدس البديلة» وبنود أخرى تضيق أو تتسع حسب مدى استعداد الشريك المفترض لتقديم التنازلات. هذا أسلوب تفاوضي إسرائيلي معتاد ومتكرر منذ «كامب ديفيد» قبل أربعين سنة بالضبط.
وثانيهما، يعمل على فصل القطاع عن الضفة الغربية لإحداث اختراق في وحدة الشعب والقضية يمهد لما يمكن تسميته «صفقة غزة» ـــ رفع الحصار باسم «الاحتياجات الإنسانية» في مقابل إنهاء الجوهر السياسي للقضية كلها.
تهدئة الوضع الأمني في غزة هدف مباشر للتفكير في تخفيض معاناة أهلها وفق اشتراطات مسبقة.
بمعنى آخر، فإن الذين أحكموا الحصار عليها تجويعاً وإذلالاً، وارتكبوا جرائم حرب بشعة في حماية الإدارات الأميركية المتعاقبة، يتحدثون الآن عن تخفيف معاناتها باسم «الإنسانية»، التي لا علاقة لهم بها.
مثل هذا الحديث يرون أنه قد يساعد، أولاً، على تحسين صورة دولة الاحتلال من التقتيل المنهجي لمتظاهرين سلميين في «مسيرات العودة» بالقرب من السياج العازل مع غزة، التي شاهدها العالم على الهواء مباشرة ولفتت إلى وحشيتها المفرطة، إلى تبني مشروعات تبشر بإنهاء كل معاناة إنسانية.
كما أنه قد يساعد، ثانياً، على تخفيض مخزون الغضب في القطاع المحاصر وما يستدعيه من مقاومة بالسلاح، أو بالتعبئة السياسية، تهدد «الأمن الإسرائيلي».
الأخطر عزل غزة عن قضيتها بأقل التكاليف.
نقطة البداية في «صفقة غزة» حل أزمة الكهرباء المتفاقمة، التي تجعل الحياة شبه مستحيلة، حيث الانقطاع هو الأصل.
هناك تسريبات إسرائيلية لا يمكن تجاهلها، أو غض البصر عنها، من أن الخطة تتضمن مشروعات في شمال سيناء لإنشاء محطة كهرباء، وأخرى بالطاقة الشمسية، ومحطات تحلية مياه، وميناء بحري لنقل البضائع وخدمة سكان غزة، ومنطقة صناعية بين رفح المصرية والعريش لتشغيل آلاف من الفلسطينيين.
ما حقيقة التسريبات الخطيرة التي من شأنها الإضرار المزدوج بمصرية سيناء على المدى البعيد والقضية الفلسطينية التي يجب حلها في فلسطين لا في سواها من أراض عربية؟
في أي تقدير موضوعي، هناك فارق بين رفع الحصار عن غزة، غير الإنساني وغير المحتمل، والتورط في مشروعات وظيفية تنهي أي حقوق سياسية ووطنية فلسطينية.
وفي أي تقدير موضوعي آخر هناك احتمال أن يكون ذلك التسريب جساً للنبض في مدى الاستعداد لتقبّل مثل هذا التورط.
تُرجِّح فرضية جس النبض تسريبات إسرائيلية أخرى عن محطات الكهرباء عند معبر بيت حانون، داخل إسرائيل وليس في شمال سيناء.
كما يرجّح الفرضية نفسها ما أعلنه وزير الدفاع الإسرائيلي المتطرف إفيغدور ليبرمان، بعد أيام من التسريب الخطير، أنه قد توصل إلى تفاهمات رسمية على بناءً رصيف خاص بقطاع غزة في ميناء قبرص.
المشروع نفسه في مكان آخر، فإذا ما تحفظت مصر فإن قبرص جاهزة.
الشروط مسبقة، وأهمها ضمان الأمن الإسرائيلي ـــ كأنّ الخيار في «صفقة غزة» بين «العصا والحذاء» لا بين «العصا والجزرة» حسب تعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، في معرض الحديث عن الأزمات العربية المستحكمة.
*كاتب وصحافي مصري