ذات يوم، في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وقف الجنرال أرييل شارون على إحدى مقابر غزة التي كان كُلف بقمع هجمات «الفدائيين» فيها ضمن إطار ما عرف لاحقاً بـ«حرب الاستنزاف»؛ مدّ ذراعه مشيراً إلى القبور وقال «هؤلاء هم العرب الجيدون الذين تحدثني عنهم». كان شارون يرد بذلك على أحد ضباطه الذي حاول إقناعه بأنه «لسنا الآن في عام 1948، وثمة عرب جيدون».
مقولة «العربي الجيد هو العربي الميت» كانت في إسرائيل، ولا تزال، أعم من أن يختص بها شارون كرأي أو تصور شخصي، إلا أنها كانت بالنسبة إلى الأخير أشبه برؤية فكرية وفلسفة حياة، حتى يمكن القول إنها مثّلت العلامة الفارقة في سيرته العسكرية والسياسية الطويلة بطول عمر إسرائيل نفسها. ولعل الأهم أنه في حالة شارون اقترنت الرؤية بالممارسة والفلسفة بالعمل، فجهد من أجل تحويل أكبر عدد ممكن من العرب إلى «جيدين». وكان السبيل إلى ذلك كثرة المجازر التي أشرف على ارتكابها، بدءاً من قرية قبية في الضفة الغريبة (تشرين الأول 1953) حيث أمر كقائد للوحدة 101 الشهيرة بهدم عشرات البيوت على ساكنيها من الأطفال والنساء، وصولاً إلى جنين (نيسان 2002) إبان عدوان «السور الواقي» الذي حصدت فيه آلة القتل الإسرائيلية، بأوامر منه كرئيسٍ للوزراء، أرواح نحو 200 فلسطيني، من بينهم 58 في جنين وحدها. وما بين قبية وجنين، تطول القائمة الشارونية لـ«صناعة العرب الجيدين»، تتصدرها دون منازع «صبرا وشاتيلا» (أيلول 1982) ولا تغيب عنها عمليات اغتيال قادة فلسطينيين كبار، كالشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي (آذار، نيسان 2004) وغيرهما، علماً بأن هناك من يضم الزعيم ياسر عرفات إلى هذه القائمة.
وندر أن حصد زعيم إسرائيلي ما حصده شارون من ألقابٍ سخا عليه بها مناصروه وخصومه على حد سواء. وكما هي الحال مع «الجزار»، لقبه الأشهر لدى العرب، استحق شارون ألقابه بجدارة ولم يحد عن الالتزام بدلالاتها. فهو «البلدورز» الذي لم تحل الضوابط والعوائق دون مضيه في تنفيذ ما أراده، متجاوزاً المحاذير السياسية والميدانية، حتى قيل إن رؤساءه خلال خدمته العسكرية تطبّعوا مع فكرة أن أوامرهم بالنسبة إليه كانت بمثابة «توصيات» لا أكثر. وقد دفع شارون ثمن اندفاعه المتفلت تجميداً لترقيته في الجيش إثر معركة «المتلة» التي خاضها خلافاً للأوامر على رأس لواء المظليين خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وقُتل فيها 38 من جنوده. لكن الاندفاع نفسه أوصله إلى ذروة المجد والشهرة في حرب «يوم الغفران» عام 1973 حين اجتاز قناة السويس في ثغرة الديفريسوار الشهيرة وتمكن من محاصرة الجيش المصري الثالث، ما أحدث تحولاً في مسار الحرب. وقد أوجز رابين المزايا والمحاذير التي تنطوي عليها شخصية شارون العسكرية بقوله «إن وجود واحد مثله في هيئة الأركان العامة أمرٌ مطلوب، أما وجود عشرة أشخاص فهو كارثة قومية».
ولم تقتصر «بلدوزرية» شارون على ساحة الميدان، بل حملها إلى الحلبة السياسية، دافعاً وحاصداً أثمانها، على حد سواء، مثلما فعل في حياته العسكرية. فحرب لبنان الأولى (1982) أودت به من على كرسي وزير الدفاع إلى «الصحراء السياسية» على إثر تحميله مسؤولية غير مباشرة عن مجزرة صبرا وشاتيلا، ثم ما لبث «السور الواقي» (2002) أن توّجهُ «ملكَ إسرائيل»، اللقب الذي بقي محتفظاً به حتى سقوطه في الغيبوبة مطلع 2006، بالرغم من الشروخ الكبيرة التي أحدثها إخلاء مستوطنات غزة (آب 2005) بينه وبين قاعدته الشعبية الأصيلة في اليمين المتطرف. فعند هؤلاء، لم يشفع لشارون أنه كان «أبا الاستيطان» ــ لقب آخر ــ وأنه أول من أرسى أسسه في الضفة الغربية كما في غزة وسيناء من قبل، حتى إن حاخاماتهم رفضوا الدعاء من أجل شفائه، وفي مقدمتهم عوفاديا يوسف، فيما كتب أحدهم مقالاً بعنوان «ابتهجوا لخسارة الأشرار».
وبعيداً عن كل الجدل حول شخصية شارون، فمن المؤكد أنه لا أحد يجادل في أن المفارقة الأبرز في حياته السياسية تكمن في التناقض الطارئ الذي حصل في السنوات الأخيرة من عمره بين كونه أبرز المنظّرين في جيله لفكرة «أرض إسرائيل الكاملة» وبين كونه الشخص الذي دفن فعلياً هذه الفكرة إلى غير رجعة. فشارون كان أشد المعارضين لمسار أوسلو الذي رأى فيه خطراً على الأمن القومي الإسرائيلي، معتبراً أنه «في دولة أخرى، كان رابين وبيريز سيُقدمان للمحاكمة بسبب هذه الاتفاقيات». بل إنه أبدى، في حينه، تفهّمه لتمرد جنود الجيش على أوامر إخلاء قواعد عسكرية في الضفة والقطاع، وظل يرفض، حتى في الأشهر الأولى من انتخابه رئيساً للوزراء في شباط 2001 إخلاء مستوطنة واحدة في غزة، هي «نيتساريم»، مطلقاً عبارته الشهيرة «حكم نيتساريم كحكم تل أبيب». شارون هذا، هو نفسه الذي تحدث بعد ذلك عن استعداده لتقديم «تنازلات مؤلمة» في سبيل تحقيق «سلام يدوم أجيالاً». وهو الذي أعلن في أيلول 2001 عن حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم غربي الأردن، وهو الذي أقرّت حكومته، في حزيران 2002، «خارطة الطريق» الأميركية التي بلورتها إدارة جورج بوش لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بالاستناد إلى مبدأ الدولتين وحدود عام 1967. كذلك هو الذي شرع في بناء الجدار الفاصل بين «إسرائيل» والضفة الغربية في محاولة لفرض حدود الكيان الفلسطيني وفقاً لاعتبارات استيطانية إسرائيلية. وهو الذي ألقى القنبلة الكبرى في خطابه من على منصة مؤتمر هرتسليا عام 2003، حين أعلن أنه يعتزم «إذا لم يوجد شريك فلسطيني مناسب، تنفيذ انسحاب أحادي في المستقبل القريب من أجزاء من غزة ويهودا والسامرة (الضفة الغربية)، بما في ذلك إخلاء مستوطنات»، وذلك في إطار خطة أطلق عليها «فك الارتباط».
وبقدر حاسم من الثقة يمكن القول إن شارون، الشخص الذي وصفه الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان في مذكراته بـ«الرجل المشاجر الذي يبدو كمن يبحث دائماً عن ذريعة للحرب»، لم يتحول فجأة، وفي العقد السابع من عمرٍ يضج باقتناعاتٍ نقيضة، إلى رجل سلام (حتى بالمعنى الإسرائيلي الممسوخ للكلمة). فالتحولات التي طرأت على عقيدة شارون السياسية تجاوزت التعليل البراغماتي، وهي لم تكن، من حيث الجوهر، أقل من انكسار إيديولوجي بكل ما للكلمة من معنى. وبالرغم من أن شارون نفسه أعطى تفسيراً سياسياً لتحولاته هذه حين قال، رداً على سؤال لأحد الصحافيين، «إن الأشياء التي تراها من هنا (كرسي رئاسة الحكومة) لا تراها من هناك (خارج موقع رئاسة الحكومة)»، فإن هذا التفسير يبقى ناقصاً ما لم يوضع في إطارٍ أكثر اتساعاً يشمل التحولات الكبرى التي حصلت في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل، ويعكس، تبعاً لذلك، إدراكاً متنامياً لدى صناع القرار الإسرائيليين بحدود القدرة العسكرية وعجزها عن فرض حلول جذرية لمشكلة إسرائيل بوصفها كياناً غريباً ومرفوضاً في المنطقة.
وبهذا المعنى، يمكن القول إن شارون يختصر في سيرته العسكرية والسياسية حكاية إسرائيل في صيرورتها المتبلورة بين العنفوان العسكري والانكسار الاستراتيجي. وبهذا المعنى أيضاً يمكن أن نفهم كيف أن شارون، الرجل الأخير من جيل المؤسسين الذي عايش نشأة الدولة اليهودية في فلسطين وكان شريكاً في صناعة معظم محطاتها الأمنية والسياسية، تحول إلى آخر ملوك هذه الدولة، وأن المتناوبين على الحكم بعده من جيل الأمراء محكومون بالسير في طريق التحولات التي أرساها في سنوات حكمه، أياً تكن توجهاتهم السياسية. ألم يوافق نتنياهو على قيام دولة فلسطينية!